استمع إلى الملخص
- أورويل يميز بين السياسة والفن، مشددًا على ضرورة الحفاظ على الجماليات الفنية، حيث يتجاوز النص الأدبي الأنظمة ليعكس تأثير النظام الرأسمالي الحديث.
- في التجربة السورية، يُعتبر أورويل مرجعًا للكتاب في تقاطع السياسة والأدب، حيث يلعب الفنانون دورًا في التأثير من خلال وعيهم بتحيزاتهم السياسية.
لا أظنّ أنَّ روايةً تُخاطب العقل والإدراك بالصورة التي تفعلها رواية جورج أورويل الشهيرة "1984"، لاعتبارات أول ما يخطر لنا أنَّها اعتبارات سياسية. فالرواية تقوم بكلّ جهد ممكن لنَصّ أدبي أن يفعله كي تدفع قارئها لأن يعي وجوده السياسي، وأن يعي موقعه، وما الصورة التي يُقاد عبرها. لكن مع ذلك، تَردُ في إحدى مقالات كتابهِ "لماذا أكتب" مقولة أقتبسها هنا: "كلّما كان المرء واعياً بتحيُّزه السياسي، حظي بفرصة أكبر للتصرّف سياسياً دون التضحية بنزاهته الجمالية والفكرية". وهذا الاقتباس مدخلٌ للحديث عن السوريين، وعن فنّهم، مع زوال نظامٍ شوَّه السياسة والحياة والفنّ معاً.
بالنسبة إلى أورويل فالمسألة واضحة؛ توجد سياسة، ويوجد فنّ. إنّهما أمران منفصلان، لكنهما يجتمعان لدى الروائي ما إن يجد نفسه أمام سؤال؛ ماذا أريد من فني؟ أو لماذا أكتب؟
وما يميّز تجربة أورويل، هو حرصه على تأدية أو تقديم دور سياسي. لكنه حرصٌ دفعه إلى تقديم تجربة جمالية في رواياته، لا سياسية. إذ ألزم نفسه بأن يكون لصيقاً بالفنّ وأساليبه، لا بالسياسة وألاعيبها، فالاقتباس يشترط بوضوح عدم التضحية بالنزاهة الجمالية. وقد استخدمت روايته دعايةً ضد الأنظمة الاشتراكية، ولو أنَّ النَّصَّ أوسع من النُّظم الاشتراكية، و"الأخ الكبير" لا يُمكن أن يكون اليوم أكثر وضوحاً من النظام الرأسمالي الذي يرانا أينما كُنّا، ويستثمر بنا طوال الوقت، وفي كل مكان. لكني أسترسل بالحديث عن موقع الرواية، كي أؤكّد أن أورويل نفسه، بالأثر السياسي الذي تميّز به؛ رأى بوجوب تقديم الفنّ بمعايير جمالية، وبهدف بلورة التحيُّز السياسي المنشود. أي، إنَّ السياسة التي يتبنّاها النَّص الأدبي، تكون مؤثّرة وذات فاعليَّة ضمن الشرط الفني الصارم. بمعنى، إنَّ ما يصنع التأثير، ليسَ المقولة، وإنَّما شكلها.
النصوص التي تجاوزت زمنها كان سقف الحرية فيها مفتوحاً
أستعيد أورويل في هذه الأيام التي انتزعَ فيها السوريون حناجرهم من السلاسل، وطردوا الرقيب من مخيلتهم. على الأقل، هذه الأيام، فالسلطة الجديدة لم تضع بعد محرّماتها. لكن أياً تكن تلك المحرّمات، يبقى بمقدور الفنَّان أن يصنع تأثيره مع وجوب وعيهِ بتحيّزه السياسي، وماذا يريد من كتابته. وأيَّ حقائق يريد أن يؤكّد عليها، أو ينفيها.
اقتباسٌ آخر شائع عن أورويل بأنَّ أكثر ما رغب به هو "أن يجعل من الكتابة السياسية فنّاً". وأخال أنَّ وعي أورويل بالشرط الفنّي للكتابة، هو ما أحدث هذا التأثير الممتد لكتابته السياسية. صحيح، إنَّه تأثير لا يخرج عن تأثير باقي الفنون، ومجالهُ هو العالم الداخلي للبشر. إلا أنَّ تجربة أورويل تصلح لأن تكون مرجعيَّة بالنسبة إلى كُتّابٍ وجدوا أنفسهم في حقلي السياسة والأدب معاً. وأخال في بلدان مثل سورية، فإنَّ الكثير من الكتّاب وجدوا أنفسهم، وهم يقرأون مجتمعهم، وهم يبنون نصاً متخيّلاً عن واقع مأزوم؛ وجدوا أنفسهم في المحصلة خاضعين لقوى السياسة. فالمجتمع تحت ظلّ النظام الشمولي، يكون مجتمعاً مشوّهاً. وكلّ ما فيه عرضة للتفكك والشك والمساءلة، بدءاً بنخبه، إلى علاقات البشر في ظلّه.
ربما تتيحُ حرية القول المأمولة، التي على السوريين أن يستمرّوا بانتزاعها من قوى الأمر الواقع، ربما تُتيح للفنّ بُعداً أكثر عُمقاً في قراءة التجربة السورية ككلّ. لكنها مساءلة تبقى مهدَّدة بخفوت النبرة الجمالية لصالح المقولات السياسيَّة التي تبدو جذّابةً الآن. لكنها جاذبية خادعة، فالنصوص التي عاشت، وتجاوزت زمنها، لم تبقَ فقط لأنَّ سقف الحرية فيها كان مفتوحاً. بل لأنَّ كُتّابها أدركوا شرط الفنّ، الذي يتجاوز اللحظة، يتأمّلها، يحاورها فنيّاً، يفكّكها، ويرجو تناصاً مع النصوص الكلاسيكيّة الكبرى.
* روائي من سورية