رغم ما شهده لبنان من أهوال الحرب والصّراعات الطائفيّة، فإنه لا يزال يخطف الأنظار ويلهِمُ الكتَّاب والشعراء، ومن آخر ما كُتب عنه نصٌّ يَصعب تصنيفُه، لأنّه يمتح من أجناس متعدّدة، يمزجها في لطافةٍ. فقد أصدر الكاتب الفرنسي Daniel Rondeau دانيال روندو (1948)، صاحب المقعد الثامن في "الأكاديمية الفرنسيّة"، نصًّا بعنوان "بيروت عاطفيًّا: 1987-2022" ("منشورات ستوك"، باريس). صوَّر فيه ما يعتمل لديه من عواطف حول مدينة بيروت، والتي زارها أوّل مرّة على متن مروحيّة عسكريّة أثناء الحرب الأهليّة (1987)، حين كان شابًّا ماركسيَّ الهوى والأفكار، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع زيارتُه، ولا انفكّ عن التفكير في قضاياها، وتحبير ذكرياتٍ عاشها في أحيائها. فهو "دائمًا ما يَسمع بيروتَ تُناديه، مدينةٌ تُكلّمه وتُناغيه".
ليس الكتاب إذًا سيرة ذاتية بالمعنى المعروف للكلمة، إذ لا يستعرض فيه تجاربَه فقط، وليس هو من أدب الرِّحلة يسجّل مِن خلاله ما شهده خلال تطوافه بين مُدن هذا البلد وقُراه وشوارعه طيلة أربعة عقود. وليس هو، أخيرًا، محاولة تأمليّة يغوص عبرها في الوضع السياسيّ والثقافيّ لبلد الأرْز، بل مزيجٌ معتدل من هذه الأجناس، يرسم من خلاله بورتريهات عن لبنانيِّين، التقى بهم خلال تسياره، فيهم ساسة وعلماء وكُتّاب وفنّانون، كما فيهم أفراد مغمورون ينحدرون من أصول اجتماعيّة متواضعة ويشكّلون ببساطتهم فرادة هذا النسيج.
بحثٌ عن العوامل الخفيّة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه
وعن كلّ هؤلاء، رسم روندو لوحاتٍ غاصت في أعماقهم وسبرت أغوارَهم، مع ربط ذلك الرسم بسياق الحرب الأهلية والصراعات الإقليميّة، وتدخّل الدول الغربيّة في الشأن اللبنانيّ، بدعوى الرّوابط "التاريخيّة"، التي تجمع فرنسا بمسيحيّي لبنان خصوصًا، وهي روابط تتجاوز التعامل الدبلوماسي المألوف، دون أن تسقط في ممارسة استعمار صريحٍ.
جال الكاتب في ذاكرة الماضي، البعيد منه والقريب، محاولًا تعليل بعض التطوّرات الجيو - سياسية التي هزّت منطقة الشرق الأوسط، فعل ذلك بريشة الأديب، فنحن نقرأ نصًّا أدبيًّا لُحمَتُه عدول أسلوبيّ، ولمعات في التحليل والسّبر النفسي، قبل التاريخ والسياسة، وهذا ما يفسّر الطابع المتشظّي للنصّ حيث تتالى فيه "الوجوه" (البورتريهات)، دون رابط منطقيّ أو زمنيّ، بل تتراصف فيما يُشبه التداعي الحرّ للأفكار، وتتعاقب على إيقاع مصادفات الالتقاء بالشخصيّات، فهو ينتقل من ميشال عون إلى أدونيس، ومنهما إلى كارلوس غصن، فماجدة الرومي وصلاح ستيتية، ثم إلى مجهولين انشدّ إليهم في مرحلة ما من مراحل حياته، أو التقى بهم صدفة خلال لقاء عابر. ولذلك تظهر الوظيفة الانتقائية لهذا السرد حيثُ لا يذكر من التفاصيل إلّا ما يكمل لوحته. لكن كيف تشكّلت ملامح هذه الوجوه؟
بَعضها رَسمه بريشة الصّحافيّ الفُضوليّ، الذي يجتهد في لقاء الشخصيات النافذة لإحراز السّبْق، وبعضُها الآخر استقاه من تجربته الحيّة كمبعوثٍ دبلوماسيٍّ إلى لبنان جاء يؤدّي مهمّة خاصة، كالتفاوض مع السّاسة المحليِّين، والبقيّة صاغها بملاحظة أديبٍ فطنٍ، يلتقط بعدسته دلائل الأصالة والاختلاف حتى لدى الشخصيات الاعتياديّة، فيصوغ منها بورتريهًا طريفًا يُضفي عليه من أثر الصنعة، وأساليب السرد الحكائي. فوراء فوضى الوجوه المتباعدة، تقبع بيروت التي تضمّ بين أرجائها تناقضات وصراعاتٍ وفروقًا، تَأسر بتنوّع أهلها وانتماءاتهم وخطاباتهم، فبيروت ذاكرة وكلام وأنغام، عواطف وعقول وتحالفات وخيانة، هي مدينة - سؤال في الوجدان مُستقرّها.
ولذلك أطلق الكاتب ما يُشبه صرخة استغاثة للعالَم، حتى يُنقذ ما تبقّى من هذا "القطب السائر في طريق الذوبان والتلاشي". صرخة بناها على وعيٍ دقيق بصعوبات هذا البلد الواقعيّة، وليس على حنين رومانسي ورؤية حالمة. فكان أنْ بثّ في هذه الاستغاثة عديد الإحالات العِلميّة والتأثيليّة التي تتعلّق بالثّقافة اللبنانية القديمة والمعاصرة، ليضع الوجوه في سياقها الأشمل. وتدلُّ هذه الإشارات على معرفة بتفاصيل الوضع الاقتصادي والسياسي للبلد، وعلى إلمام بالرّهانات الدّاخليّة والإقليميّة التي يُواجهها. فظاهر النصّ سردٌ وجدانيّ، لكنّه في الحقيقة بحثٌ عن العوامل الخفيّة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه في أيّامَنا، من أزمات وعَطالة.
بورتريهات شملت شخصيات سياسية وعمّال مصانع ولاجئين
ورغم السواد الطاغي على الوضع اللبناني، فإنّ الكِتاب لم يخلُ من نوادر ساخرة، هي الأُخرى مريرة، مثل وجود قنّاص في قلب "المتحف الوطنيّ"، بعد أن حفر ثقبًا في إحدى قاعاته، وذلك الميكانيكي الذي حصّل ثروة هائلة من تَدريع المَركبات والسيارات، ومنع روندو من الإقامة في لبنان ثم رفع هذا المَنع بفضل مكالمة سريعة أجرتها "واسطة"... وهو ما يضفي على النص طابعًا فكاهيًّا يقرّبه إلى الرواية، فالرّجل حَكّاء في الصميم، تحملُ ريشته فنّ القصّ واقتدار الرواية الأوروبيّة، سخّرها ليروي بيروتَ وجدانِهِ، فتتالتِ القصص والحكايات القصيرة في نسيج متشابك، مثل فسيفساء تتداخل فيها القِطَع، وتتشكّل عبر وحدة عضويّة: حبّ لبنان، في علاقة تكاد تكون مَرَضيّةً.
الأسئلة التي رافقني خلال مُطالعة هذا النصّ: هل يمثّل الرجل استمرارًا للفكر الاستشراقي في نزعته الرومانسيّة؟ هل كان في مقاربته متعاليًا حِمائيًّا؟ أم كان متعاطفًا صادقًا مثل أي عربيّ أحبّ بيروت؟ تكشف القراءة المتأنّية لما بين السُّطور أنّ الرّجلَ يعرف دقائق تاريخ لبنان القديم والمعاصر، وأنه يحمل عاطفة خالصة للبلد وأهله وذاكرته. ولا شكّ أنه يُعارض النّظرة الاستعماريّة التي يُعلنها غيرُه من السّاسة بصَلَفٍ، ولكن ثمّة، بين الكلمات، ما يُشبه الادّعاء بأنّ لبنان جزء لا يتجزّأ من الغرب اللاتيني بجذوره المسيحيّة، وأنه "استثناء" في ذلك الشرق الرهيب. هذا الادّعاء من آثار الخيال والفانتازيا، يُصاغُ من نزعة الحنين التي تستغلّ كلّ فرصة من أجل هذا الإلحاق ولو وجدانيًّا. كنّا لا نَفهم كيف يُعرّض روندو بإضعاف القوى الخارجيّة لسيادة هذا البلد، من دون أن يُشير إلى أنّ هذا الإضعاف الخارجي تغذّيه فرنسا وأميركا بالأساس، ومهما كانت دوافع هذا الخارج فهي مساسٌ بسيادة الدولة اللبنانيّة وتدخُّل سافر في شؤونها.
لكنْ، أن تتحوّل مدينة عربية كبيروت إلى موضوع خيال أدبي أمر إيجابيّ. فقد أنتج روندو خطابًا مغايرًا لما هو سائد في فرنسا من خطابات الكراهية والعِداء للعرب. إلا أنه ظلّ مستمرًّا في نبرة الانبهار التي حِيكت، طيلة قرون، حول متخيّل الشرق العربيّ الساحر، ولعلّ ما يشفع له أنّ حكاياته شملت عامة النّاس والمغمورين منهم، كصبيان المطاعم وعمال المصانع واللاجئين، وهو ما يُرجع القارئ إلى الواقع المرير. كما أنه يندرج ضمن تقليد أدبيّ عربيّ عريق: التغنّي بجمالية بيروت التي تهوي إليها الأفئدة، كما هوت أفئدة أدونيس وسمير قصير وبدر شاكر السيّاب وأحمد صالح النّجفي وفيروز، وعشرات من الكتّاب والشعراء غيرهم، أُخِذوا، كما أُخِذ روندو، بهذه المدينة الآسرة الماكرة.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس