في أحد الأيام، يقرّر نيكولاس أنّه سئم حياته بالكامل: العمل الشاق في مكتب في مدينة مونتيري، شمال المكسيك؛ العودة كل يوم محطّماً إلى المنزل، كسب المال لدفع نفقات الحياة والإيجار. باختصار، لقد ضاق صدره من هذه الحياة الرتيبة، والمبتذلة، إذا صح التعبير، خصوصاً أنه يطمح إلى شيء متعالٍ.
حياته، على حد تعبيره، "يمكن أن يعبّر عنها تولستوي بنصف جملة فقط"، ذلك أن نيكولاس شغوفٌ بالأدب الروسي، ويقرأ مؤلّفيه كمتعصبٍ ديني يتلو الكتاب المقدس. إنّه يحبُّ الشغف الذي تسعى به هذه الشخصيات الروسية المُعذّبة إلى الحرية والتعالي عن بؤس الحياة.
هكذا يقرّر في أحد الأيام أنّ اسمه لم يعد نيكولاس، بل نيكولاي نيكولايفيتش بسيلدونيموف، ويتعهد، بصحبة عصبة غريبة من الناس المجنونة مثله، أن يبدأ رحلةً رائعة عبر الأدب الروسي، هدفها تحرير الخيال من أية حياة أخرى.
هذه هي حبكة الرواية الجديدة للكاتب المكسيكي الواعد دافيد توسكانا (مونتيري، 1961)، التي صدرت عن دار نشر "ألفاغوارا" الإسبانية تحت عنوان "عبء الحياة على الأرض"، ونالت جائزة "مازلتان الأدبية" لعام 2023 في المكسيك.
تعامل النقد مع الرواية على أنها نوع أدبي جديد في السردية الإسبانية، لا سيما أنها تستوحي عوالم روسية، إذ اعتُبرت أنها تكريم للمبدعين والمؤلفين الروس الذي عانوا من الرقابة والاضطهاد والنفي والسجن والموت لممارستهم حقهم في الحرية، بسبب حساسية القيصر للنقد أو بسبب عمليات "التطهير" الستالينية، أو الانغلاق السوفييتي.
هكذا ستبدأ الرحلة الخيالية التي يقوم بها نيكولاي نيكولايفيتش مع عصبة من المجانين، في مقدمتهم زوجته، التي قرر أن يناديها مارفا بتروفنا، إضافة إلى السكير غيراسيم، وغريبويدوف، الذي يقدّم نفسه في البداية على أنّه المرأة العجوز البائسة في رواية "الجريمة والعقاب"، وأنطون الاستهلاكي، إضافة إلى سلسلة من الشخصيات التي يكيّفها توسكانا، روائياً، وقفاً لحاجة نيكولاي لتحويل الحياة إلى مأساة روسية.
وتضم الرواية بين صفحاتها، وعلى لسان شخصياتها، استشهادات واقتباسات كاملة من أنطون تشيخوف أو بوريس باسترناك أو ألكسندر سولجينتسين أو ماكسيم غوركي. "لطالما كانوا نموذجاً بالنسبة لي. الأدب، في نهاية المطاف، هوية، ليست مهمته الترفيه، بل أن يقول شيئاً عن الإنسان، عن الحرية، والحياة، والموت، ومعنى الحياة"، يعلق الروائي المكسيكي.
وتبرز في العمل فكاهة معقدة، وعميقة جداً، فهي تكشف لنا أنَّ كلّ تلك الروايات التي وضعها عمالقة الأدب الروسي فيها الكثير من أوجه التشابه، التي يصعب العثور عليها للانطلاق منها نحو بناء رواية جديدة. لكن توسكانا أفلح في ذلك، وجعل من "عبء الحياة على الأرض" رواية تستحق أن يقبل عليها قرّاء الإسبانية واللغات الأخرى.
يذكر أن دافيد توسكانا هو كاتب وروائي مكسيكي من مواليد عام 1961. درس الهندسة الصناعية في "معهد مونتيري للتكنولوجيا والدراسات العليا"، قبل أن يبدأ مسيرته الأدبية. من أعماله الروائية: "الدرجات" (1992)؛ "القارئ الأخير (2005)، و"المدنية التي سرقها الشيطان" (2012).