خوفٌ من الأماكن المغلقة

12 يونيو 2024
أطفال فلسطينيون في أنقاض منزلهم الذي دمّرته الغارات الإسرائيلية على مدينة غزّة (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتبة تشارك تجربتها حول العزلة والخوف من الأماكن المغلقة، مسترجعة عيشها في جزر الكناري لـ35 عامًا وكيف أن الطبيعة منحتها شعورًا بالحرية والانفتاح، موضحة أن العزلة يمكن تفسيرها بطرق مختلفة.
- تناولت تجاربها في الأمازون وتشيلي، مؤكدة على أهمية تغيير المنظور وكيف أن المغامرات تعلمنا دروسًا قيمة عن أنفسنا والعالم، وكيف يمكن للمسافات الطويلة والظروف غير المألوفة أن تثير القلق.
- تُختتم بتجربتها في لبنان، مشيرة إلى كيفية تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على تعميق شعور العزلة والحصار، مبرزة أن العزلة قد تكون نتيجة لظروف خارجية وليست مجرد حالة ذهنية.

مَن منّا لم يُسأل، في مرحلة ما من حياته، عمّ إذا كان يشعر بنوع من الخوف من الأماكن المغلقة؟ على مدى خمسة وثلاثين عاماً أمضيتها في جزر الكناري، لم أشعر مرّةً واحدة بأيّ شيءٍ مماثل لما يسمّى "مرض الجزيرة"، الذي يتخيّله أولئك الذين يعتبرون أنّ الجُزر "مساحات مغلقة".

بلى، عليّ أن أعترف أنّني طوّرتُ الحاجة إلى تأمُّل الأفق عبر تسلّق القمم، وإمعان النظر في الوديان من الأعالي، والتلذّذ بالمدن والشواطئ وملامح الجُزر الأُخرى. واستكمالاً لهذه العادة، أدركتُ في منطقة الأمازون الفنزويلية، وأنا مضطربة بعض الشيء، الحقيقةَ العظيمة للقول الشائع: "من كثرة الأشجار قد لا أرى الغابة".

لكنّه اضطرابٌ ما لبث أن تناثر بمجرّد أن أتُيحت لي فرصة الصعود، مشياً على الأقدام بطبيعة الحال، إلى جبل سيرّو بيريكو في فنزويلا، وتأمُّل الغابة التي تحتضن مدينة بويرتو أياكوتشو، وتعرّجات نهر أورينوكو تحت قدميَّ.

غير أنّ من يتحدّثون عن الصعود إلى القمّة يريدون الصعود إلى الترّاس القديم لـ"مركز التجارة العالمي" في نيويورك، أو ترّاس "فندق أدامار" في إسطنبول.

ثم بعد هذا كلّه، يتعوّد المرء على المسافات، وتتحوّل مسافة السبعة وعشرين كيلومتراً التي تفصل بويرتو ديل كارمن عن شاطئ فامارا في جزيرة لانزاروتي الإسبانية إلى نزهة قصيرة. ربّما لهذا السبب، أتذكّر برعب تلك الرحلة إلى تشيلي، حيث قرّرت صديقتي الشاعرة روزابيتي مونيوز السفر إلى منطقة تشيلوي في تشيلي كي تقابلني هناك، ثم نعود سويةً إلى سانتياغو على متن حافلة، ونقطع مسافة 1125 كيلومتراً.

"غالباً ما تُعدّل الأنواعُ الحيوية في الجُزر ظروفَها لتتكيّف مع كل جزيرة. إنّه جزء من متلازمة العزلة". أتذكّر أنّني كتبتُ هذه الجملة التي قالها جان فوستر في سبعينيات القرن المنصرم. حتى أنّني حاولت الاستفادة منها شعريّاً، ذلك أنّ فكرة فوستر تنطبق على علم الحفريات وتؤثّر، اعتماداً على الظروف وملايين السنين، على السحالي العملاقة في جزيرة إل هييرو، التابعة لجزر الكناري، كذلك الأفيال القزمة في قبرص.

تجسّدت العزلة في شكل شعور بتنميل في جسدي عند وصولي إلى لبنان

هذا الشعور بالعزلة، الذي لم يسبق لي أن أحسست به قطّ في جزر الكناري، تجسَّد في شكل شعور بتنميل في جسدي عند وصولي إلى لبنان عام 2019: ميناء بلا حركة ركّاب - حتى قبل الانفجار المروّع في الرابع من آب/ أغسطس 2020 - وحدودٌ مع سورية يتطلّب عبورُها الحصول على تأشيرة، وتحذير من وزارة الخارجية الإسبانية بتجنّب السفر مهما كان الظرف. ومن جهة ثانية، حدودٌ مغلقة تاريخياً، تحت حراسة "بعثة حفظ السلام" التابعة للأمم المتّحدة، وخط أزرق لا تتوقّف "إسرائيل" عن تجاهله، لكنّه يمتدّ على الجانب اللبناني فقط. أمّا المطار المجاور لضواحي بيروت الجنوبية، فهو الطريق الوحيد للخروج. 

لن يتأخّر شعور الحصار بملامستي، ولم يكن في جزيرة، بل تحديداً في الثالث عشر من نيسان/ إبريل الماضي، حينما أغلق الأردنيون مجالهم الجويّ، وكذلك فعلت سورية ولبنان. حصل ذلك نتيجة تحذير إيران بضربة ستوجّهها لـ"إسرائيل" ردّاً على تفجير قنصليّتها في دمشق.

وسرعان ما وصلت أخبارُ تعطُّل المطار وخروجه عن العمل، ليس بسبب الرحلات المُلغاة فحسب، بل بسبب أولئك الذين أرادوا مغادرة البلاد بأسرع وقت. وبسرعةٍ مرّت في رأسي ذكريات أشهر القيود الصارمة على الكهرباء، وطوابير البنزين، ونقص الطحين. وبين هذا وذاك جملة "كأنّنا في حرب" التي كان اللبنانيون يقولونها فيما ينظّمون أنفسهم، باستثناء المصارف التي كانت تعمل بشكل جيّد!

أُعيد فتح المجال الجوّي في المنطقة بعد ساعاتٍ قليلة، وعاد كلّ شيء إلى ذلك التوازن اللبناني إلى حدّ الفوضى. كلّ شيء، باستثناء خطّة انتقالي الوشيك من بيروت إلى عمّان.

كان الطريقُ البريّ الخيار الأوّل والأكثر منطقيّة، وهو عبور سورية خلف الشاحنات التي ستُقلّ أثاث منزلي، مع وضع قططي في الجزء الخلفي من السيارة. لكنّه خيارٌ غير متاحٍ نظراً للظروف الأمنيّة في البلاد والهجمات الأميركية في شباط/ فبراير الماضي.

أمّا خيار الشحن انطلاقاً من مرفأ بيروت الفوضوي، عبر قناة السويس إلى العقبة فلم يكن يُنصَح به بسبب حالة الحرب في البحر الأحمر. ولم يبقَ سوى خيار النقل الجوّي غير الفعّال لنقل أثاث المنزل كاملاً.

يا لها من سذاجة! يا لها من حماقة! أقول لنفسي، وأنا أرى أولئك الذين يعيشون محاصَرين في غزّة، في ما يشبه حصار القرون الوسطى، تقوم به مسيّراتٌ لا تحترم حتى المستشفيات وتمارس الإبادة. حقّاً، ذلك هو الشعور الكامل بالحصار في مكان مغلَق!

* كاتبة وشاعرة إسبانية 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون