يبدو مفاجئاً، للوهلة الأولى، الجهد الذي يبذله المجتمع التقني الحديث لمحاولة تشويه الذاكرة وعدم الوثوق بها في ما يتعلّق باستعادة أحداث الماضي، لا سيّما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّه لا يمكن استحضار الحدث نفسه من الماضي تماماً كما جرى.
ومن المعروف أنّه في كلِّ مرّة يروي فيها شخص ما قصةً قديمة، فإنه يُدخل فيها تغييرات، حتى لو كانت طفيفة، لكنها تثير شكوكاً والتباسات حول دقة ما يقول. لا شك أن هذا ساهم، بشكل أو بآخر، في الارتباك الهائل المتعلّق بمصداقية الذاكرة، لدرجة اعتبارها أحياناً مستودعاً للأكاذيب.
"الذاكرة والحياة" هو عنوان كتاب عالم النفس الإسباني خوسيه ماريا بارغاس، الصادر حديثاً عن دار نشر "دباتي"، والذي يتناول فيه موضوع الذاكرة، ويوضح الكثير من التساؤلات والشكوك الموجودة حول آلية عملها، ومصداقيتها، وعلاقتها بمفهوم الهوية، والواقع، والماضي والمستقبل.
ينطلق الباحث الإسباني في كتابه من فكرة أنّ الذاكرة ليست عضواً مثل بقية أعضاء الجسم الآدمي؛ فهي ليست مثل الكلية أو القلب، بل إنّها وظيفة من وظائف الدماغ البشري، كما أنّها وظيفة موجودة عند بعض الحيوانات التي لها دماغ متطوّر. وهي، كما يوضح، ليست مُصمَّمة لتسجيل نسخٍ متماثلة عن الواقع، فهذه ليست وظيفتها، بل كي تمنح الأفراد المعرفة اللازمة عن أنفسهم وعن العالم من حولهم، من أجل توجيه سلوكهم، بغضّ النظر عن تعقيدات الموقف.
ويفنّد المؤلّف الإسباني الكثير من التصوّرات المسبقة حول الذاكرة في فصول الكتاب العشرة، التي رتّبها بدءاً من الأهمّية الحاسمة للذاكرة في تكوين الذات وعلاقتها مع الحقيقة، وأسباب هشاشتها، خاصّة في أثناء الطفولة، وصولاً إلى الحديث عن الحساسية والعواطف في عمليات تسجيل التجارب والحفاظ عليها، أو التوازن بين المكاسب والخسائر التي تحدّد العلاقة الدقيقة بين الذاكرة والدماغ خلال الشيخوخة.
وفي الفصل الأخير من الكتاب؛ والذي جاء عنوانه "النظر إلى الماضي دون غضب"، يناقش عالم النفس الإسبانية أهمية الذاكرة في بناء الهوية الإنسانية، مميزاً بين ثلاثة أنواع من الذاكرة: ذاكرة السيرة الذاتية، والذاكرة الدلالية، والذاكرة الإجرائية. وهو يقول بأن وظيفة الذاكرة ليست استعادة الحقائق، بل التجارب. وهذا يفسّر، كما يوضح، سبب تحوّلها إلى ساحة معركة في كثير من الأحيان، خصوصاً عندما لا يتم التفريق بين الحدث وتجربته.
مع هذا كله، لا يتردد الكاتبُ في الإشارة إلى أن ملكة الذاكرة هي أكثر الملكات تعقيداً بسبب آلية عملها المعقّدة نفسها، ولكنْ مهما يكن من أمر، فإذا كان ثمة مفتاح رئيسي لفهم هويتنا وفهم مَن نكون، فهو، بلا شك، الذاكرة.