كثيرًا ما تَوسَّع الباحثون في درس الخصائص اللغوية للخطاب القانوني المستخدَم في المجلّات والنصوص التشريعية واللوائح الإدارية. وفي المقابل، لم يُعتنَ بالبُعد الثقافي في ترجمة هذا الخطاب إلّا مؤخَّرًا؛ حيث أجمعت الدراسات على تأكيد صعوبة النقل من لغة إلى أُخرى بسبب ارتباط نصوص القانون بمنظومات ثقافية وبمراجع تاريخية تعمل من وراء حجاب، كما بأنظمة القضاء الخاصّة بكل بلد، والتي تطوَّر كلُّ واحد منها في اتجاه مُحدَّد.
ومن آخر ما صدر في هذا المجال كتابٌ للباحث الإسباني خورخي فالدينبرو سانشيز بعنوان "المظهر الثقافي في الترجمة القانونية"، الصادر عن دار "بيتر لانغ". ويحمل الكتاب عنوانًا فرعيًا هو "تحليلات للتماثل الأكبر والشامل والجزئي والمتناهي في الصّغر في مدلولات المصطلح الجنائي بين فرنسا وإسبانيا".
فرغم انتماء البلدَين إلى الفضاء القومي الأوروبي نفسه وخضوعهما إلى المرجعية الوضعية الموحّدة، ورغم تحدر اللسانَين من الأصل اللاتيني بجذوره وذاكرته المشترَكة، فإنّ المصطلحات الفنّية، في مجال القانون، لا تُحيل إلّا جزئيًا إلى المدلولات نفسها بما هي تصوّرات ذهنية لها تبعاتٌ إجرائية، ثمّ بما هي انعكاسٌ لتطوُّر مؤسّسات القضاء والتشريعات داخل المجتمعَين وما انبثق فيهما من ممارسات في فقه القضاء.
تأخَّر الاعتناء بالبُعد الثقافي في الترجمة القانونية
ولذلك، ركّز الباحث على معضلة الصيَغ المختلفة Variations التي تتجلّى من خلال تعايش تعبيرات مُصطلحية متباينة للمفهوم نفسه، إمّا داخل اللغة الواحدة أو بين لغات متعدّدة، حين يربط بينها جسرُ الترجمة فيُنقل المفهوم عبر مُصطلحَيْن مُختلفين فأكثر، نظرًا إلى وجود خصوصيات داخل كلٍّ من اللغة - المصدر واللغة الهدف، كتلك الصيَغ الفرنسية التي تتعدّد من كندا إلى فرنسا أو بلجيكا حين تُترجَم إلى سائر اللغات الأوروبية.
كما تناول الباحث الفروقَ التي تطرأ ليس على المضمون الذهني للمبادئ القانونية فحسب، وإنّما على كيفيات تسميتها بين الفرنسية والإسبانية، حيث تتباين الكلمات في طريقة استحضار معانيها رغم تحدرهما من الأصل اللاتيني ذاته، وهو ما يحيل إلى ظاهرة الكلمات - الصديقة ظاهريًا، والتي كان علماء اللغة العرب يطلقون عليها "الاشتراك اللفظي" المبني على تشابه لغتَين وأكثر في كلمات مثل accusé وacusado من دون أن يدلّا، في الفرنسية والإسبانية، على المفهوم نفسه، رغم تشابههما في التأثيل والبنية الصوتية والشكل الإملائي.
وللتعمّق في استيعاب هذه الظواهر، قُسِّم الكتاب إلى أربعة فصول يمكن تلخيصها في بابَين كبيرَين: اعتنى الباحث في الأوّل منهما ببَسط أحدث نَظريات الترجمة القانونية التي باتت حقلًا مستقلًّا بذاته، ثمّ بالتعريف بأهمّ المفاهيم التي تُشكّل أساس هذه النظريات، فتعرض إلى النظُم القانونية في كلّ من إسبانيا وفرنسا، مسترجعًا، ضمن منظور تاريخي، ظروف تشكّلها ومصادرها وتراتبها في هذيْن البلدَيْن، ثم ذَكّر بأنواع المَحاكم وفئات العاملين في القطاع العَدلي من قضاة ومحامين وعُدول وكُتّاب وغيرهم، وذلك حتى يجلي المكوّنات الأساسية للجهاز القضائي فيهما، وهو ما سيتيح فهم الفروق العميقة لسائر المفاهيم الجنائية رغم تشابهها الظاهري في المصطلحات المعبِّرة عنها.
ولعلّ هذه الفروق الثاوية في تواريخ منظومة القضاء هي التي تُعلّل أنّ اللفظ الواحد لا يُراد منه الشيء نفسه في فرنسا وإسبانيا. وليس هذا فقط، بل ثمّة بعدٌ آخر، قد لا ندركه أوّلَ وهلة، وهو أنّ اللسان الإسباني المستخدَم في إسبانيا ليس هو نفسه تمامًا المستخدم في سائر بلدان أميركا الجنوبية اللاتينية، مثل المكسيك والأرجنتين والبيرو وغيرها.
باتت مصطلحات القانون متماثلةً أكثر من أيّ وقت مضى
وخُصّص الباب الثاني لدراسته الطبيعة التخصّصية للنصوص القانونية عبر عرض تصنيف شامل لمصطلحات القانون ومظاهره المعجمية والدلالية وغيرها من قضايا الاشتراك والترادف والتوليد والتقادم والاشتقاق التي تطاول مصطلحات هذه الدائرة المفهومية، كما بحث في الترجمة القانونية بوصفها ترجمة متخصّصة؛ حيث حاول فالدينبرو سانشيز اجتراح تعريف مدقّق لهذا الحقل الفتي، والذي يختلف عن الترجمة الأدبية أو الطبّية مثلًا، كما تعرّض إلى مختلف الكفاءات المطلوبة من أجل اقتحام لُجّة النصوص التشريعية، مُشيرًا خلال ذلك إلى صعوبة إيجاد "مقابلٍ" دقيق.
وهنا يصل الكاتب إلى لبّ أطروحته ومَحلّ الأصالة فيها؛ وهو التصنيف الرباعي للمقابلات (الكبرى والكبيرة والصغرى والصغيرة) بين المفاهيم، بمعنى أنّ المفهوم الفرنسي قد يمتلك مقابلًا دقيقًا له في النظام الإسباني، فيكون ذلك المقابل إمّا كلّيًا أو جزئيًا أو متناهيًا في الصغر، ولا يُخفي الباحث أنه استلهم أدوات تحليله هذه من المصطلحات الإعلامية ورقائق الحواسيب.
وهكذا، كان هذا الباب الثاني المركَّز على مدوّنة المَجلّتَين الجنائيتين بحثًا تطبيقيًا، ورد في شكل جداولَ صارمةٍ وآليات تسمح بقياس مدى التطابق بين المفاهيم وتصنيفها من درجة الصفر إلى مستوى التضاعف، فكان يقارن بين المضمون الذي يحمله كلُّ مبدأ جنائي في النظامَين القضائيَيّن بعد استدعاء تعريفه الدقيق، كأن يقارن مثلًا بين مدلولات "قاضٍ"، "جريمة"، "إيقاف"... في كليهما.
فإذا حاولنا تلخيص "المظهر الثقافي" الذي يتوجّب أخذُه بعين الاعتبار في مسار الترجمة، كما أكّده الباحث، رأينا أنّه يشمل التاريخ السياسي لبلدٍ ما، وظروف تشكُّل المنظومة القانونية فيه ومصادرها العرفية والدينية والوضعية، إلى جانب السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي تمارَس فيه العدالة، فضلًا عن العناصر المكوّنة للسلك القضائي.
ومع ذلك، لا ينبغي تضخيم هذا المظهر الثقافي، لأنّ مصطلحات القانون باتت اليوم متماثلةً أكثر من أيّ وقت مضى، ولا سيما في حقل القانون الدولي الذي يتألّف من مفاهيم تنطوي عليها كلُّ الدول والثقافات واللغات. ولذلك لا تحيل صيغة المصطلحات إلى أي سياق قُطري مَحدود وخاصّ، وإنّما إلى التصوّرات التي غدت البشرية جمعاء تقبلها؛ حيث تُمثّل المعاهدات الدولية أبلغ تعبير عن تبنّي الجزء الأكبر من المنظومة القيمية الكونية، ولذلك يكون الرجوع إلى مصطلحات موحَّدة تُفهم بالطريقة نفسها، مهما اختلفت اللغات، لأنّها تحيل إلى المفاهيم نفسها، وهذا ما سمّاه الباحث Nano- conceptuel؛ أي وجود فويرقات متناهية في الصغر بين المقابلات.
قد يكون هذا العمل مفيدًا في دراسة المصطلحات القانونية العربية، ذلك أنّ النصوص الجاري بها العمل في دُولنا متباينة والفروق القُطْرية أحيانًا كبيرة، وقد تمنع التواصل وتتسبّب في إشكالات وسوء فهم. ويكفي أن نتذكّر هنا أنّنا نتوفّر على ثلاثة مصطلحات متباينة، هي "قاض" و"حاكم" و"مستشار"، للإشارة إلى مَن يبتّ في القضايا وينطق بالحكم.
ولا ننسى أنّ لكل بلد عربيّ، ورغم اعتمادها جميعًا الفصحى المعاصرة في لغة القانون، نظامه القضائي الخاصّ الذي يصوغه بعربيته الإقليمية، وقد تُسفر الاختلافات بين هذه الأجهزة وبين طرق المفهمة عن أزمات دبلوماسية، كما اتّضح في حالات عديدة. ولم تنشأ مثل هذه الأزمات عن القوانين المُتَّبعة في كلّ بلد، بل عن اختلاف كيفية التعبير عنها وتغاير صياغتها المفهومية، وهو ما نأمل أن تستمرّ جهود توحيده.
يُذكَر أنّ خورخي فالدينبرو سانشيز حاصل على دكتوراه في نظرية الترجمة من "جامعة لورين" الفرنسية؛ حيث يعمل أستاذًا محاضرًا. يدرّس الترجمة العامّة والمتخصّصة ونظرياتها ضمن أقسام الإجازة في اللغات الأجنبية. كما عمل مدرّسًا للترجمة في مؤسّسات أُخرى مثل: "جامعة مالقا" بإسبانيا و"ISIT" بباريس، وهو حاليًا عضو في مركز أبحاث (LIS). تتركّز أبحاثه على الترجمة القانونية والقضائية المُحلّفة بما أنه مترجم محلّف (فرنسي - إسباني) في محاكم الاستئناف.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس