"لبعض السفر أحتاجك: خالد الأمين، قصائد وشهادات" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت من إعداد العراقي علي البزّاز (ومشاركة لكلّ من: عبدالرحمن طهمازي، عبدالرزاق رشيد الناصري، أحمد الباقري، عبد الحسين الهنداوي، عزيز عبدالصاحب، سناء عبدالقادر مصطفى، فاضل عباس هادي، عقيل حبش). لم يهمّني أوّل الأمر. فأنا لم أسمع بخالد الأمين من قبل، ولم أعرف له موقعاً في الشعر الحديث، ولم أصادف أيّاً من قصائده. لكنّني تصفّحت الكتاب، وأثناء ذلك بدأت أشعر أن نموذج خالد الأمين ليس غريباً عليّ. إنه ــ وهو الذي ولد 1945، عام مولدي ــ عايَشَ مثلي، في الستّينيات ومطلع السبعينيات، سِجال القصيدة الحديثة، ولحق قصيدة النثر في بدايتها العراقية، وشارك فيها بأكثر من ديوان.
على أن هذا ليس وحده ما يميّزه. فإلى جانبه، وربما بالتلازم معه، كان له موقع في الغليان الثوري آنذاك، الذي كان يخوضه "الحزب الشيوعي ــ القيادة المركزية"، المنشقّ عن "الحزب الشيوعي العراقي". لم يتأخّر "الحزب الشيوعي ــ القيادة المركزية"، بعد الانشقاق، عن الدعوة إلى حرب العصابات في الأهوار ومباشرتها، وهي الحرب التي قادها الشاب الذي حفزته الثورة إلى أن يغادر موقعه البارز في إنكلترا، ويعود إلى العراق، ليقضي نحبه أثناء الثورة، التي ما لبث أن أخمدها حزب "البعث" الحاكم.
لم يقف الأمر عند ذلك، فقد انهار عزيز الحاج، قائد الانشقاق، في السجن، وارتدّ عن الدعوة التي قام على أساسها. رغم هذا التدهور بقي خالد الأمين، الذي يلتبس اسمه بقائد حرب الأهوار، الذي هو أيضاً خالد أحمد زكي الأمين، وربما شارك هذا الالتباس في طيّ اسمه. بقي وسواه في التنظيم الذي صار هدف الأمن البعثي. فرّ كثيرون من الرفاق إلى خارج العراق، لكنه بقي نشطاً، إلى أن اعتُقل أثناء عودته إلى بلدته، الناصرية.
قلّما خرج معتقلٌ من معتقلي "القيادة المركزية" حيّاً، وهذا ما كان مصير خالد الأمين، الذي تعرّض لتعذيب في "قصر النهاية"، السجن ذي الصيت البربري، ليختفي، بعد أن نُقل بادّعاء أخذه إلى المستشفى. كان هذا عام 1971. تكلّم عن خالد جميع الشهود الذين استصرحهم مُعِدّ الكتاب، وهم رفاق له في الناصرية، مدينته، وفي السياسة والشعر؛ تكلّموا عن مرحه وخفّته التي تقارب الطيش، لكنّه، وهو الشاب الموسر، كان بالغ الأناقة، يرتدي ما يخيطه له خيّاط شهير غالي الثمن. أمّا ما يتعلق بالشعر، فقد كان في الموجة التي كان العراق أحد، بل وأبرز مراكزها؛ موجة القصيدة الحديثة التي بكّر خالد في الالتحاق بأكثرها تطرّفاً، أي قصيدة النثر.
التحق خالد بالتيّار الذي كانت مجلّة "شعر" اللبنانية مرجعه. لم يكن خالد وحيداً في ذلك، فقد طلب منه أحمد الباقري أن يقدّم لترجماته من الشعر الفرنسي، وهي لكلّ من سان جون بيرس، وبول إيلوار، وأندريه بروتون، وهنري ميشو، وجول سوبرفييل، وبيار ريفيردي، وإيف بونفوا. لم يكتب خالد مقدّماته لهؤلاء فحسب، بل كتب قصائد على أشعارهم خرج منها ديوان كامل حمل عنوان "سهلٌ وخطِر كبصمة إبهام". العنوان في الأرجح من وضع المُعِدّ، فخالد الأمين الذي لم ينشر في حياته سوى قصيدة أو قصيدتين؛ كان قليل الاكتراث بجمع شعره أو نشره.
العنوان هذا من القصيدة التي وضعها خالد على شعر إيلوار. يمكننا أن نقتبس من أشعاره على أشعار الفرنسيين: "الخطأ الجسيم كتاريخ نهائي" على شعر أندريه بروتون؛ "حزن لشخص واحد وفم واحد" على شعر سوبرفييل؛ "الجهد المبذول لتخفيف وطأة المناظر الأبدية" على شعر إيف بونفوا. أمّا في مجموعته الثانية، التي عُثر عليها، وعنوانها، الذي لا ندري إذا كان من وضع الشاعر أو وضع المُعِدّ، هو "من أجل ضوء كثير الدماء" ففيها من "قصيدة العدل والمياه": "اهرب/ فأنت أرخص الفرسان".
ابن ستّ وعشرين سنة، قُتل خالد الأمين في مغامرة ثورية
ومن قصيدة "منفضة الأصابع المحشوة بالأصوات"، نقتبس: "وهل ذراع الشعر غير عواطف خاسرة". وفي قصيدة "القلب البديع" نقرأ: "لبعض السفر أحتاجك". أمّا من "أطفال بوداعة النسور"، فنقتبس: "هل سيتسنّى لي أن أرى البحر/ وأعود ثانية لأتمنّاك، لأضمّك كالعضّة إلى لحم قلبي". ومن "أربعة أشرعة ولكنْ جديدة"، نقرأ:
"لأكثر العيون فوضوية
ودائماً، لا لشيء الآن يسمّى ماضياً
لذلك الدموع كلّها أضحت مع الجرح القديم"؛
"الألم الذي لا يقنع المسافر بالعودة،
هو الذي يجعل على حافة المطر
وردة".
"أنا أكبر الغزلان على سماء المائدة
أتتبّع حدود الإيماءة
من رسّامي الكنائس الروّاد
إلى فرش صدري الأيسر..
وأعدمت رمياً بالانتظار
وبالقنابل المسيلة للذكريات".
هذه الاقتباسات هي أيضاً فصل الشعر عمّا يبدو فوضى تنبئ بالشعر. كان خالد في بداية قصيدة النثر، وهي بداياتٌ لم يُتَح له، هو المشغول بالسياسة، وبعمره القصير، أن يجد قصيدته، كما أتيح لصديقه القريب عقيل علي، الذي وجد مَن ينسب إليه ظلماً السطو على شعر الأمين، الذي بقي في أيدي الرفاق والأصدقاء. فقصيدة عقيل علي مختلفة عن شعر الأمين، الذي قد يذكّر في فوضاه الكلامية وفصاحته الوعرة بأنسي الحاج في "لن" و"الرأس المقطوع". ابن ستّ وعشرين سنة، قُتل خالد الأمين في مغامرة ثورية، لم تصل إلّا إلى الإحباط، وخانها قائدها. زاوجَ الأمين بين ثورة في السياسة، وثورة في اللغة، ولعلّه في الاثنتين كان من كِبار الخاسرين.
* شاعر وروائي من لبنان