"حُبّ" دينو بوتزاتي: وجهٌ آخر لميلانو

23 يوليو 2023
دينو بوتزاتي في مكتبه بمدينة ميلانو، عام 1969 (Getty)
+ الخط -

رواية الإيطالي دينو بوتزاتي (1906 - 1972) الصادرة عن "دار الساقي" بترجمة وافية للروائي السوري رامي طويل، تكاد تصدر عن اسمها وتدور حوله. "حُبّ" هو ما تبسّطه الرواية وتخوض في تضاعيفه ومقوّماته، وتبني منه عليه، وتُعالجه كأنّها مبحث فيه ودراسة له. بل هي تستخرجه من بعيده وقريبه، وكأنّها بذلك تُعيد ابتكاره، وتخلقه من حيث لا بداهة فيه ولا أُلفة. "حُبّ" ليست أيّ حبّ، وقصّته ليست أيّ قصة، فهو هنا غير مُعتادِه وخارج نماذجه.

إنه حُبّ في غير موضعه ومأثوره ومبناه الأصلي. يكفي أن نذكر أنّه حبٌّ مُلبِسٌ مُتناقض، ويقع من حيث لا ينتظر طرفاه، ومن غير اعترافهما. بيد أنّ هذا الالتباس والإنكار، هُما اللذان يغليان فيه، وهُما اللذان يُشكّلان صراعه المُقيم، ودراماه الداخلية. الرواية هي عن حُبٍّ غريب، تتردّد الرواية حياله طوال السرد. إنه حبٌّ بين فنّان، أو ما يقرب من فنّان، خمسيني: أنطونيو، وبائعة هوى: لايدي. أنطونيو هو العاشق، الذي يتصرّف كعاشق، بدون أن يقرّ بنفسه عاشقاً. ولايدي من الجهة الثانية لا تُعاني هذا العشق، ونفهم أنها، على طول الرواية، لا تزال بائعة هوى، باعتراف عاشقها نفسه الذي يستمرّ في معاملتها كبائعة هوى، تتلقّى أجراً عن كلّ ليلة حُبّ، بدون أن يحُول ذلك دونه، ودون أن يغرق في حبّها، وبدون أن يغار عليها. ما بين بيع الهوى والحبّ، لا نجد هنا تناقضاً.

حُبٌّ لا يخرج من دائرة قلقه حتى يعود إلى الانتظام فيها 

الحُبّ في ناحية والاتجار بالجسد في ناحية أُخرى. هكذا نجد لدى أنطونيو لوناً من الحُبّ، هو غير ما نعرفه عنه. حُبٌّ يصل إلى حدّ أن يذلَّه، كما يقول لنفسه، رغم أنّ النساء هنَّ بالنسبة له "ذلك الشيء... الذي لم يُفكّر فيه إلّا لحاجة جسدية". إلّا أنّه ليس جامحاً في رغباته ولا شبقاً. شغفُه بلايدي يكاد يتجاوز حاجة الجسد، وإن كان محصوراً في هذه الحاجة. إنه حُبٌّ قَلِقٌ، كما هو الحُبّ دائماً، ولا يُمكنه أن يخرج من هذا القلق، فهو لا يلبث يُعاوده. إنّه الحُبّ بكلّ عذاب الحُبّ، وبكلّ إحباطاته، لكنّه أيضاً الحبّ بكل أضاليله وخداعه وتوهُّماته. يُمكن لذلك أن نرى في رواية "حُبّ" لبوتزاتي درساً في الحُبّ، وتحليلاً عميقاً له، وسبراً، بل وافتضاحاً. إنّه الحُبّ في رواية بوتزاتي، يكاد يكون خديعة دائمة للذات، ووهماً مُثابِراً عنها وعن الآخر.

بوتزاتي الذي نعرفه هو من أعلام القصّة القصيرة. أمّا "حُبّ" فرواية تصل، في ترجمتها العربية، إلى قرابة 320 صفحة. إنّها رواية طويلة، بحبكة رواية، ومدى رواية. مع ذلك فإنّنا، ونحن نتوغّل في قراءتها، لا نزال نشعر بأنّ "حُبّ"، رغم طولها، تكاد تكون توسُّعاً وامتداداً، لما هو في أصله رواية قصيرة. من بداية الرواية، حيث نعثر على أنطونيو في زيارة المبغى الذي تعمل فيه لايدي، لا نزال في دوران، بالعناصر ذاتها، حول صلة أنطونيو بلايدي. لن نعثر على الكثير، هناك تردّدات هذه العلاقة وانعطافاتها وانتكاساتها بنفس الأحداث تقريباً، ونفس الأشخاص.

الصورة
حب - القسم الثقافي

 إنّها سيرة دائرية تخرج من مربّع إلى مربّع، من صدمة إلى صدمة، وخسارة إلى خسارة، في سياق يكاد يكون متوقَّعاً، ويكاد يكون تكراراً لنفس الصدمات، ونفس المغازي، ونفس الأشخاص تقريباً. بل إنّ الرواية نفسها، بدءاً من لقاء أنطونيو الأوّل بلايدي، وما استتبع هذا اللقاء من شغف وإذلال، تضعنا أمام قضية بمُعادلتين. الأولى هي معادلة الحُبّ، بما فيه من شغف مُستغرق ولهفة مُضلِّلة، وانتكاسات مُتوالية. أمّا الوجه الآخَر للقضية، والمُعادِلة الثانية، فهو في لقاء بييرا بأنطونيو التي تهدم، في تحليلها، كلّ المُعادلة الأُولى. ما جرى من شغف عاناه أنطونيو مكذوب، ما ظنّه أنطونيو حُبّاً استغرقه وإذلالاً لحقه، لم يكن البتّة كذلك. لقد بقيت لايدي بالنسبة له بائعة هوى، واستمرّ يُعاملها كذلك. كان الجنس كلُّ ما يهمُّه. لم يفكّر لذلك بأن يُمضي حياته معها أو يتزوّجها. لقد بقيت بالنسبة له جسداً مُباعاً، وامرأة مُباعة، بغيّاً وبغيّاً فحسب.

من بداية الرواية نعثر على ميلانو، المدينة التي لا تلبث أن تظهر، كلّ مرّة، في تضاعيف علاقة أنطونيو بلايدي. كأن هذه العلاقة، بتفاصيلها، من وجوه هذه المدينة التي هي بحسب الرواية "عالَم للرعاع". المدينة تظهر كلّ مرة تتأزّم فيها علاقة أنطونيو بلايدي، نلتقي بها وهي "تمضي بخطواتها الجريئة في قلب مدينتها الغامض وغير المرئيّ". قصّة أنطونيو المُرتبِكة مع لايدي وانتكاساتها، هي وجهٌ آخَر للمدينة، أو أنّ المدينة هي وجهُها الثاني. كلُّ دوران أنطونيو ولايدي هو أيضاً في زواريب المدينة ودهاليزها. لكأنّ الرواية وعلاقة أنطونيو بلايدي، هما، على نحو ما، ميلانو أُخرى.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون