حياة الأنواع الأدبية

03 مايو 2024
"قارئ وكتاب"، لؤي كيالي، زيت على قماش، 95 سم × 75 سم (1975)
+ الخط -
اظهر الملخص
- مفهوم "موت الأدب" مستقى من النقد الغربي ويعكس خيبة أمل من التطورات الاجتماعية والثقافية، لكن في السياق العربي، يشير إلى تغيير أو تلاشي الأشكال الفنية بدلاً من موتها الحرفي.
- الأنواع الأدبية كالمسرح والقصة القصيرة والشعر تعرضت للتهميش والرقابة في العالم العربي، مع تقييد خاص للمسرح بوصفه منبرًا للتعبير الحر، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الجاد وتحوله إلى نظرية تكاد تتلاشى.
- الصراع بين السلطة والفن يعكس قوة الفن في توحيد الناس وإلهامهم، حيث يستمر الفن بالظهور بأشكال مختلفة رغم محاولات القمع، مؤكدًا على العلاقة المعقدة بين السلطة والفن والجمهور في الثقافة العربية.

لا أظنّ أنّ أيّ ناقد عربيّ يُمكن أن يكون قد كتَب عن موت الأدب، أو موت القارئ، أو موت المؤلّف، أو موت الكتاب، أو السينما، أو الراديو، كان جادّاً. فمسألة موت الأنواع الأدبية ليست مسألة عربية، من الوجهة التي كان يقصدها ناقد مثل ألفين كرنان الذي كتب مؤلَّفاً سمَّاه "موت الأدب" (صدرت طبعته العربية عن "المجلس الأعلى للثقافة"، 2000)، وفي مُجمل الوجهة الفلسفية التي قاربَها النقد هُناك، إنما كان يُحاول أن يُعبّر عن مواقف فكرية ولّدتها التطوّرات والأحداث المتغيّرة في أوروبا، أو عن شعور عميق من قِبل الكتّاب والمفكّرين في الغرب بالخَيبة ممّا آلت إليه مجتمعاتهم بعد الحروب. وقد تبدو عبارة موت الأدب، أو المؤلّف، مُحايدة، أي أنّ هذا النوع يموت من تلقاء نفسه، وموتُه ناجم عن دمار داخلي، لا عن تدخُّل الخارج.

واللّافت أن تكون الثقافة العربية التي أخذت المفهوم، قد شهدت بالفعل تلاشي الكثير من الأنواع الأدبية، لا موتها بالطبع. المسرح بوجه خاص، والقصّة القصيرة، والشعر، والطريف أن يعتني العرب بجوائز الرواية وحدها دون غيرها من الأنواع الأدبية، دون أن يكون لديهم أيّ موضوع فكري أو فلسفي يُفسّر الاستبعاد، أو الاختيار.

لكنّ الحقيقة غير ذلك، فالمسرح أكثر الأنواع الأدبية تعرُّضاً للمنع، أو لمحاولات القتل، فوجود مسرح في أيّ بلد يعني وجود العلاقة المُباشرة بين الناس والفنّ، وهي علاقة غير مُحبَّذة لدى جميع الأنظمة الحاكمة العربية، فالمسرح كان، ولا يزال، يُمثّل حضور الحشود واجتماعهم، واتّفاقهم عموماً على مُشاهدة العرض، والتأثّر بمضمونه أو برسالته. فقطْعُ التذاكر المُشترَك نفسه لحضور مسرحية يعني وحدة الجموع، ورغبتها في أن تكون معاً في مكان واحد هو صالة العرض.

ليس الفنّ ما تخشاه السلطة بل الجمهور الموحَّد تحت رايته

ولهذا فقد شدّدت السُّلطات الرقابة على المسرح، وقيّدت نشاطه، ومُنع المسرح الجادّ تقريباً، منذ منتصف القرن العشرين، وما بعد، وسُمح بمسرح خفيف تهريجي يجذب المتفرّجين ويُلهيهم ويُعمي بصيرتهم، وكان هذا كفيلاً بإخماد جذوة مسرحية عربية واعدة، بدأت منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتلاشيها، وتحوّلها إلى النظرية التي تتلاشى تقريباً بدورها، ويُمكن أن نشمل السينما العربية بالقانون نفسه، فالسينما تتطلّب صالاتٍ للعرض، والصالات تضمّ الجماعات، جماعات المتفرّجين الذين يتّفقون ضمناً على الفُرجة والمشاهدة والتفاعُل مع الفيلم السينمائي، وأفضل ما لدى هذا الجمهور، في كلّ من صالتَي المسرح والسينما هو الحرّية، حرّيتهم في الحضور والمشاهدة والتفاعل مع النص والتمثيل، بعيداً عن وصاية المرجع الخارجي الذي يتجسّد في تعليمات الحزب والسلطة.

وفي هذا الإجراء تنجح السلطة الرقابية في منع جهتين تخشاهما: الأُولى هي الجمهور الموحّد، حتى لو كانت وحدته تحت راية الفنّ والمُنتج الجادّ الذي يُقارب مشاكل حياة الناس بكلِّ ما فيها من فرح وحزن ومشاكل وتعقيدات، ويعرض للأسباب، وقد يُلمِّح للحلول، وهكذا.

من سيموت في نهاية الأمر؟ السلطة، أم النوع الذي تحاول السلطة انتزاع الحياة منه؟

المُراهنة غير ممكنة، والجواب مستحيل، فالسلطة لا تموت، ولكن المسرح لا يموت أيضاً، وإذا أُخمد نشاطه في أحد البلدان، فإنّ وجوده في ثقافات العالَم قد يتأثّر بغياب مُبدع محتمل قد يرفد عالمه بتراث جديد، لكنّه لا يضمحلّ ولا يموت.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون