بحلول القرن الثامن الميلادي، احتضنت بغداد عشرات الأعراق والثقافات في لحظة تاريخية كانت معظم حواضر العالم، وفي مقدّمتها أوروبا، منكفئة على نفسها لا تعرف من "الغرباء" سوى التجّار والرقيق. كما شهدت عاصمة العباسيين أكبر ثورة زراعية تمثّلت في استقدام مختلف أنواع المحاصيل والبذور والحيوانات والأسماك من الشرق والغرب.
أسّست تلك النقلة النوعية في الزراعة لأكبر خزانة طعام وأكثرها تنوّعاً، ولا تزال آثارها ماثلة في شرق المتوسط حتى اليوم، وتمتزج وصفات الطهي التي وضعها أهل بغداد مع أخرى اختُرعت في قصور الخلفاء والأعيان وعلى يد ذوّاقة الأكل الذين بدأوا يقرضون الشعر كلّما حضّروا من صنف واحدٍ عشرات الأطباق، واكتشفوا طعماً جديداً وهم يخلطون الحامض بالحلو، أو عثروا على فائدة لعشبة أو مستخلص جديد.
يَعتبر العديد من الباحثين أنَّ أبا إسحق إبراهيم بن المهدي، شقيق هارون الرشيد، أوّل من ألّف ضمن هذا الحقل، فضمّ في كتاباته الحكايات والقصائد التي تحتفي بالأطعمة والحلويات والشراب، وهو ليس غريباً على واحد من أعلم أناس عصره في النغم والإيقاع، وهو الذي يقيم الموائد للطرب والاستمتاع بكلّ ما لذّ وطاب.
تُبرز هذه المؤلّفات شغف أصحابها بمجالس الطعام، وترفاً عاشته بعض الطبقات الاجتماعية، حيث عكست تقاليدها المتمثّلة في طرق تناوُل الأكل وآدابه ومستوياته، ومسائل ذات صلة بالدعوة إلى الموائد وعلاقة الضيوف بالمضيفين، وغيرها من التفاصيل التي ينبغي على العوام تعلّمها للصعود إلى مراتب الخاصّة.
مع الموسيقى، يقال إن زرياب نقل فنون المطبخ من بغداد إلى قرطبة
مع التوسّع الهائل في الطبخ بسبب تدوينه باعتباره فناً وعلماً وأدباً، بات الاحتراف والدقّة والإتقان سمات أساسية تصنّف الطهاة في العصر العباسي؛ حيث حظوا في تلك الكتب بأوصاف تدلّ على شخصياتهم ومعرفتهم بأطعمة مختلف الشعوب والحضارات، ما يؤهلّهم للالتحاق ببلاط الخليفة وولاته وقادته، وهؤلاء كانوا ينظّمون أيضاً مسابقات يتنافس فيها صفوة الطبّاخين.
يكتب محمد بن حسن البغدادي (توفي عام 1239م)، في مؤلّفه "كتاب الطبيخ"، أنه "ينبغي على الطباخ أن يكون حاذقاً عارفاً بقوانين الطبخ، بصيراً بصنعته، وليختبر القدور البرم ثم من بعده الفخار، وعند الضرورة النحاس المبيض".
ترافق الاعتناء بالمائدة وتعدّد صنوفها وسبل الراحة والنظافة مع اهتمام كبير بسلامة البدن وقوامه ولياقته، ما جعل معظم المصادر التاريخية في الطبيخ منذ القرن العاشر الميلادي تركّز على الجوانب الصحية وتُفرد مساحات لفوائد هذا الطعام أو ذاك ووسائل حفظه بالتمليح والتدخين والتجفيف وغيرها، وتحديداً في ما يخصّ التنحيف وشدّ الجلد وتجميل البشرة واسترخاء الأعصاب وتنشيط الجسم أو التجميل لدى النساء.
ومن أبرز مؤلّفي تلك المصادر مجموعة من الأطباء؛ مثل يوحنا بن ماسويه، الذي لم يكن الرشيد والمأمون والمتوكل يتناولون أطعمتهم من غير مشورته، وتحضر في كتابه "الطبيخ" قواعد ومعارف استقاها من الإغريق والبيزنطيين، وكذلك أبو بكر الرازي، الذي اهتمّ باستعمالات الأغذية المتنوّعة لعلاج الأمراض، وابن مندويه بتنظيراته حول الأطعمة المناسبة للجسم بحسب اختلاف حالاته وظروف المناخ التي يحياها.
ترافق الاعتناء بالمائدة مع اهتمام بسلامة البدن وقوامه
تشترك مؤلّفات الطبخ في بحثها في موضوعين أساسيين، الأول يستعرض كلّ ما يتعلّق بصحة الجسم والعلل التي تصيبه لأسباب عضوية وطرق مداواة البرد أو المغص أو الإسهال أو الإمساك أو ارتفاع الحرارة أو آلام الأمعاء والقولون وطرْح آراء الأقدمين وما يؤكدها أو ينفيها من أقوال المحدثين، والثاني يسهب في شرح ما يخالف أمزجة الأبدان ويعكّر صفوها ويؤدّي إلى سوء أوضاعها النفسية.
فقدنا العديد من هذه الأدبيات لكن ورد ذكرها في مؤلّفات لاحقة مع إيجاز لمحتوياتها وتأكيد على مكانتها العلمية، وأقدم ما وصل إلينا كان "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب"، لابن سيار الوراق، الذي سكن بغداد خلال القرن العاشر وقيل إنه كُلّف بتأليفه من قبل أحد الأثرياء، فوضعه في موسوعة ضخمة من مئة وثلاثين فصلاً اشتملت ستمئة وصفة طعام وفوائدها الصحية والحكايات المتواترة حول ولائم الأعيان والوجهاء.
وكان التنافس على أشدّه بين علماء وكتّاب المشرق وبين نظرائهم في المغرب، الذين نُظر إليهم في معظم الكتب التاريخية بوصفهم مقلّدين ومحاكين قبل أن تظهر دراسات حديثة تثبت خلاف ذلك في حقول معرفية وإبداعية عدّة، ومنها الطبخ الذي يتوافق حوله كثير من المؤرّخين الذين يشيرون إلى زرياب، الذي نقَل الموسيقى والمطبخ أيضاً من بغداد إلى قرطبة، وعلّم الناس كيف يبدأون طعامهم بالشوربة ثم الطبق الرئيسي ثم الحلويات، وأصول الشراب وأنواع الكؤوس واستخداماتها.
بات الاحتراف والدقّة والإتقان سمات أساسية تصنّف الطهاة
قد لا يصمد افتراض كهذا كثيراً مع الكشف عن عناوين متخصّصة في الطبخ لدى الأندلسيين والمغاربة خلال الفترة ذاتها التي وُضعت فيها مخطوطات المشرقيين، وتعكس تنوّعاً أكبر نتيجة الاختلاط مع شعوب مثل الصقالبة والقوط، واهتماماً أكثر باللذة والجودة، وتفصّل بالطبع طعام الخاصة وأكل العامة على اختلاف مناطقهم، بحيث تلفت إلى ندرة الخبز في منطقة، وكثرة أطباق السمك في ثانية، واعتماد أخرى على البقوليات بشكل رئيس.
تناول مؤلّفو هذه الكتب جانباً من حياة الرفاهية عاشتها بعض الطبقات الاجتماعية في التاريخ الإسلامي باستخدامها مستحضرات طبية لتطييب رائحة الفم وتعطير الملابس عند غسلها أو تخزينها، مخصّصين لها مساحة كبيرة في مدوّناتهم، ومنها كتاب "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيّبات والطيب"، الذي يُنسب إلى مؤلّف مجهول في القرن الثالث عشر.
يُفتتح الكتاب بباب الطيب، الذي يشير إلى تطوّر صناعة العطور ومساحيق إزالة العرق المستخلصة من العنبر والمسك والعود والبخور، في وصفات معقدة تُضاف إليها أنواع من الورود والأعشاب ودهن الفاكهة تدقّ وتخلط وربما تطهى لفترات طويلة وتبرّد، مرفقة بشروح حول قوّة كلّ عطر وغلبة رائحته على روائح عطور أخرى. ويليه باب الأشربة المصنّعة من صنوف لا تعدّ ولا تحصى من الحبوب والرز والفواكه والزهورات، وآخر في المياه وصنعتها واستقطار الخل، وثالث في الدجاج المحلى، ورابع في اللحوم والدهون، وخامس في أطباق تطهى من أصناف معينة، كالملوخية والباذنجان والقلقاس والكرنب، وفي الحلويات والمخبوزات، وسادس في المخللات والموالح.
ويختتم الكتاب ببابين، الأول خُصّص للصابون وأنواعه، والثاني لمستحضرات تطييب رائحة الفم تصنّع من الورد ومائه والجوري وشقائق النعمان والزعفران والكافور والنشادر والمسك وزهرة الأبرويز والصندل لا تترك أنواع منها أثرها حتى على الثياب البيضاء، وغيرها لتعطير الملابس عند غسلها، أو عند تخزينها.