في الوقت الذي تشيع خطابات الكراهيّة في تونس، بما في ذلك على لسان رئيسها، تتصدّى رواية "عين الطاووس" لمحظور خفيّ من محظورات الثقافة العربيّة: العنصريّة المُبتذلة الشائعة التي يُكنّها بعض العرب إزاء الأفارقة السود. وكعادتها، تُعرّي حنان الشيخ هذا المحظور عبر تكثيف المتناقضات وتفجيرها من الداخل: الأسودُ عربيُّ الأب، لبنانيُّ اللهجة، قضى ردحًا من طفولته في لبنان وتشرّب من عادات العرب وطرقهم في الكلام والتفكير وحتى الدعابة، ثم عاش فتراتٍ أُخرى بين السنغال وألمانيا وفرنسا. فإلى أيّ أرْض نَنسبه؟ وأيّة هويّة جاهزة نُسقطها عليه؟
مُنطلَق الحبكة لقاءٌ سورياليّ، بعد فراق استمرّ لثماني سنوات، بين العمّة ياسمين، عاملة في مَطعم لبنانيّ جنوبَ فرنسا، وابن اخيها ريكا الأسود المقيم في مبيتٍ وَسِخٍ للمُهاجرين بألمانيا، إذ جاءته رفقةَ ابنها ناجي لإقناعه بالعودة إلى الحِضن العائليّ. شكّل هذا اللقاء تحوّلًا جذريًّا في مسيرة كلّ واحد من الشخصيّات الثلاث: ريكا الذي تطوّرَت مواقفه ونظرته إلى العالم فشَدّ الرّحالَ إلى فرنسا وتصالَح تقريبًا مع ذاته العربيّة بعد أن عرّى كلَّ ما طاوله من إهانات عنصريّة بسبب بَشرته السّوداء.
كما تخلّص ناجي، بعد حرب شعواء، من الإدمان على المخدّرات واجترح مسارًا فنّيًا واعدًا، تدعمه وسائل الإعلام الفرنسيّة. وأخيرًا، تبدو ياسمين وقد نَجحت، رغم سنّها، في العثور على لحظات عِشقٍ فَقيد بعد أن جَرت روحُ المغامرة من جديد في عُروقها وحرّرت ابنَها من المخدّرات وأخرجت ابنَ أخيها من عُزلته الألمانيّة.
رواية ضاحكةٌ مضحكةٌ، رغم قساوة المَحظور الذي عالجته
ورغم البسمة السارية في كلّ سطر من سطور الرواية، فإنّها تنضح بمرارة الواقع العربيّ، ومجتمعُ لبنان من نماذجه، فضلاً عن ألم الغُربة ومرارة العيش في أوروبا القديمة لمن لا يملك "الأوراق" ولِمَن يملكها، حيث يستوي المهاجرون الشرعيّون مع غيرهم من عديمي الوثائق وحتى من أبناء البلد في الإحساس بهشاشة الحياة وتعرّض الكلّ لدورة العنف وثِقل الإدارة ورداءة الظروف المعيشيّة، علاوةً على مُعضلة الجَسد الأبديّة وهو يصارع تنفيسًا عن رغباته التي لا تُقهَر إمّا عبر "صور إباحيّة معلّقة على حائط مُتّسخ"، أو جولة مُسترَقَة مع رجلٍ إلى البرتغال، أو جماعٍ جنونيّ مع ماغي الشبقيّة، أو نظرات مختلسة إلى مُوظّفة البَريد الفرنسيّة. أكان أبيضَ أم أسود، شرعيّ الإقامة أم سِرّيها، لا يوقف نزعاتِ هذا الجسد لا الحياءُ الشرقيّ ولا قسوة الحياة في أوروبا، فقوانينُه أعتى من كلّ قيمة وكلّ رقابة.
وأمّا نصّ الرواية فقد انْبنى على ثنائيّة الأبيض والأسود التي غدت بمثابة والدة سيميائيّة isotopie تتحكم في كل مقطعٍ: فيتقابل السَّرد الذي أتقنه الروائيّون البيض، آباء الرواية الغربية البرجوازيّة، كما أكّده ج. لوكاتش، وشعرُ الراب الذي استَحدثَه وتألّق فيه آباؤه الأفرو-أميركيون ثمّ الفرنسيّون. لكنّه جرى هنا على لسان ناجي، الشاب اللبناني الذي كان يقضي عامّة يومه في تعاطي الحبوب المخدّرة، ممّا جعله يتيه عن المكان ويغيب في تداخل الأزمنة وتشابك الكائنات تسبح أمام عينه البلّورية في عالَم حالم تتموّج قطاعاتُه ضمن ديمومة باطنيّة يستعيدها بغنائيّة الرّاب.
يغيب البَطل الملحميّ لتبرز معاناة الأمّهات المكلومات بأبنائهنّ
وبدوره، قام نِظام الشخصيّات على التقابل ذاته، بين ناجي وريكا وياسمين، وقد تتالى السرد ليكشف خباياها وأعماق النفسيات إمّا استرجاعًا لماضيها أو استشرافًا لمستقبلها، مع إضاءات مُبَعثرة هنا وهناك تنبجس حيث لا نتوقّعها من أجل إتمام الحبكة وإحكام نَسجها في تفاعل الشخصيّات المساعدة والمعارضة، مثل ماغي صديقة ناجي، وكلبتها، وصديق ياسمين الذي التقت به في البرتغال، فضلاً عن أخيها والد ريكا، وأمّه الأفريقيّة، وجدّته والجيران في لبنان والسنغال وموظفة البريد... ممّا جعل الأحداث تتالى جيئةً وذهابًا بين الأزمان والبُلدان والذاكرات والخيبات.
كما انتسج النصّ على مراوحة بين إيقاع الراب المهتزّ ونسقه المتعاود وصوره المستفزّة التي تقرّب بين المتباعدات، وبين السّرد والوصف والحوار. وقد اختارت الكاتبةُ، بما هي آلية تنضيدٍ للعالَم السرديّ، أن تجريَ جلّ الحوارات باللهجة اللبنانيّة، سعيًا منها للإيهام بواقعيّة الرواية وتَطابقها مع أساليب التحادث بين أفراد الأسَر. فانسابت لغة السّرد سلسةً، جَمَعت بين "صَحو" الحبكة بتطوّراتها وأحداثها، بتعقيداتها وانفراجاتها، وبين "سُكْر" الانفلات الشعريّ والرؤى والأحلام الوليدة من حالة الإدمان على أنقاض الفشل والعَوَز والانهيار النفسيّ.
الإحساس بهشاشة الحياة وتعرّض الكلّ لدورة العنف
وهكذا، تشترك سجلّات الكلام وأجناسُه في بيان خفّة الكائن وعَجزه فيتعلق بأهداب أيّ أمل، وفي التنديد بالعنصريّة العربيّة ضدّ السّود، كما تفتح ملفّ زيجة اللبنانيّين من الأفريقيات اللواتي يُتْركن لمصائرهن في قُراهنّ النائية أو مُدنهنّ الأفريقيّة وضواحيها. فلا يَجرأ هؤلاء الآباء على الاعتراف بأبنائهم خجلاً من لون بَشرتهم وتجعّد شَعَرهم. أفخر ما يُهدونَهم اسم: "بِلال" أو وعدٌ بتعلّم سياقة الطائرات، لا يُنجز.
وأمّا مَرجع النصّ، وقد غابت عنه أسطورة البَطل الملحميّ، فهي معاناة الأمّهات المكلومات بأبنائهنّ التائهين في دوّامة الحبوب المخدّرة، هذه الآفة التي تقوّض الجَسدَ والوعي، فلا تُرمّمه إلّا مثل هذه الكتابة الكاسرة لحواجز النفس، المخبرة عن انزلاقات المهاجرين والمُدمنين في حبكة مُحكَمة، تُختفي وراءها مشاهد ضِياع لبنان وأهازيجه وقصصه الشعبيّة وتمثّلاته حول السود، وقد كان يُطلَق عليهم الاسم المؤذي: "عَبد"، إلى جانب قِصص هجرة إلى بلدان أفريقيا وزيجاتٍ مقطوعة وفَضائح مكتومة. أليس هو تاريخ لبنان "بقَضّهِ وقَضيضه" انساب عبر ياسمين وكأنّها نهر جارٍ في رُدودها ومواقفها، وَشمٌ أسود باقٍ على ظاهر جسدها الأبيض، وبدا في كلامها، في قصائد ناجي وترنيماته وحتى في صمت ريكا ومَزِحاته بعد أن فجّر اللقاء بينهم هذه الساقية الثاوية في أعماق كلّ واحدٍ منهم؟
تعود حنان الشيخ من جديد إلى رصيدها الثرّ من الذكريات والوقائع بين بيروت وداكار وباريس لتفضح آليات التلاعب بالجسد والرغبة في إخفائه وفي "تبييضه"، متجاوزةً بذلك كلّ الطابوهات والقيود الزائفة التي فَرضتها أخلاقيّة ذكوريّة لتكشفَ عن واقع متعدّد، يخالف فيه الظاهر الباطنَ. كلّنا "أسودُ يبحث عن توأمه الأبيض"، "رأسانا مُلتصقان"، وقد مَدَّدَتْنا حضارة غوغل والاستهلاكيّة حتى بات بإمكان كلّ منّا أن يرى الآخر ونحن نضرب أجسادَنا من الضحك"، نضحك على إيقاع الراب من هذه العُنصريّة المقيتة ونرنو لفسحة الحياة الحلوة، وأحلاها جسدٌ منعتقٌ من أوهامه وقيوده، وسبيل تحرّره أساليب الحَكي التي طوّعتها حنان الشيخ كاتبةً وإنسانةً، راويةً ومؤلفةً، في شُقّتها بلندن وهي تتابع من خمسة عقود ومن ثلاث عشرَة روايةً فَورات الجسد وتِيهَ أجيالٍ من عائلتها. تمتح ملاحِمَها من أرصدة حِكايات لبنان وقصص نِسائه ورجاله الذين زانتهم الجرأة فلم يتهيّبوا الحديث عن الجسد.
"عين الطاووس" رواية ضاحكةٌ مضحكةٌ، رغم قساوة المَحظور الذي عالجته وآلام العنصريّة المقيتة التي نَدّدت بها. أرادتْها كاتبتها فضحًا لتفاهة هذا السلوك وغباء من يَدين به، وسُخرية ممّا وَقَر في المجتمع العربي من ازدراء للسود واستنقاص من شأنهم رغم أنّ العرب يعانون من نفس هذه النظرة الازدرائيّة في مَلاجئ الغرب ومُخيّماته. بهذه العين نبصرُ هشاشة زَمَننا اللّزج الأسود.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس