حكيم عنكر.. القصيدة والسياسة والحياة في عين الصحافي

10 ديسمبر 2020
حكيم عنكر في مكاتب "العربي الجديد" بالدوحة
+ الخط -

في الأول من نيسان/ إبريل الماضي، يكتب الزميل الصحافي والشاعر المغربي حكيم عنكر (1968 - 2020)، الذي رحل أمس، نصّاً في "العربي الجديد" بعنوان "أيرضيك ذلك يا غاستون باشلار... أن يغلبنا الفيروس وصَحْبه؟!"، يدوّن فيه: "لكن البورصات، ونشرات الأخبار، وقوافل التوابيت والناس المحجورين في تلك الغرف القميئة التي تسمى كذباً (غرف الحجر الصحي).. كلها تقول إن وجهنا المقبل سيكون أكثر عبوساً، حياتنا أكثر قسوة، في عالم يحكمه البخلاء وتجار الموت.. عالم يضحك فيه الذهب المركون في الخزائن، ويصهل فيه الجوعى..".

قال عنكر نبوءته منذ نحو ثمانية أشهر عن "عالم سيحكمه البخلاء وتجّار الموت"، قالها في نص ممزوج بالسخرية والأسى، بالتشاؤم والمرح مع كلمات الناقد الفرنسي، وفي انتظار الأسوأ، لا ضير باللعب مع الكلمات واللغة والصور، فالكارثة لا مفرّ منها. هكذا رسَم الواقع بعد كورونا الذي أصرّ أن يخطفه أمس، الأربعاء، من بين أحبّته وأهله في أحد مستشفيات الدار البيضاء.

رحَل صاحب "رمل الغريب" في غفلة؛ منهكماً بمشاغل التحرير وعدّته، حيث بدأ العمل في الصحافة مع مطلع الألفية الثالثة في صحف مغربية عدّة، قبل أن ينضمّ إلى فريق "العربي الجديد" منذ تأسيس الجريدة والموقع قبل إطلاقهما عام 2014، ومهموماً بقراءاته التي خصّص جانباً مهماً منها في سنواته الأخيرة لكتب الرحلة وكتّابها في الشرق والغرب، ينشر مقالاته حولها على صفحات الثقافة في الجريدة.

الحرية والكرامة والعدل هي الجنة التي حلم بها الشاعر 

في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، تناول في مقال له رحلة المغربي الفقيه علي التمكروتي إلى إسطنبول عام 1589، والتي تضمّنها كتاب "النفحة المسكية في السفارة التركية" الصادر حديثاً، وقبلها استعرض رحلة أحمد فارس الشدياق إلى أورويا، والرحالة البريطاني كينغليك إلى فلسطين عام 1833، والرحالة الفرنسي أندريه شوفريون إلى المغرب، ورحلة الأمير محمد علي إلى جاوة عام 1929، والرحالة الألماني هايينسترايت في زياراته إلى تونس والجزائر خلال ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وعلى خطى ابن بطوطة في عدد من أسفاره التي راجع ما صدر عنها من مؤلّفات، وغيرها العشرات.

لم تنفصل اهتماماته الثقافية عن رؤية أشمل لذلك الشاب الآتي من بلدة دكالة الصغيرة بالقرب من مدينة الجديدة بالمغرب، وبدأ نشاطه السياسي ضمن صفوف "منظمة العمل الديمقراطي"، إحدى تشكّلات اليسار في المغرب، وأمضى سنوات طويلة في التزامه السياسي تعرّض خلالها إلى المضايقات والسجن، وقد نعاه العديد من الكتّاب والناشطين العرب والمغاربة، مستذكرين أيام الدراسة ثم العمل في الصحافة.

حاز عنكر شهادة جامعية في الأدب العربي، ونشر قصائد في مرحلة مبكرة وحاز "جائزة الطاهر حداد" التونسية في الشعر سنة 1993، إلى أن أصدر مجموعته الأولى بعنوان "رمل الغريب" عام 2001، والتي اعتمد فيها على جمل قصيرة بإيقاعات سريعة تصل إلى المعنى والفكرة بلا زخرفات لغوية وبلاغية، حيث يقول في أحد المقاطع: "سننتصر/ سننتصر/ ضد هذا الرأسمال النتن/ ونفرح بدولة الجميع!".

رحَل في غفلة منهكماً بمشاغل التحرير والصحافة

سيخوض مغامرة مختلفة في كتابه "مدارج الدائرة" (2006)، الذي أصدره بالاشتراك مع الفنانة التشكيلية نجاة مكي، ويضمّ قصيدة طويلة تجاور اللوحة، والتي كتب عنها الشاعر بشير البكر: "الدائرة هي محور هذه التجربة الشعرية اللونية. في حالاتها الرمزية، تبدو الدائرة هي الحلقة الموصلة بين الداخل والخارج، الخاص والعام، الشاعر والكون، اللوحة وحالات التحول من الناحية اللونية التشكيلية، ضمن مستويات الحلم، والانتقال من الأحمر إلى الأخضر إلى الأزرق فالأبيض. ويصبح هذا الأخير كلمة سر اللوحة، ووسيلة اتصالها بالحالة الصوفية".

رغم أن عنكر لم يصدر مجموعة ثالثة، إلا أن الشعر ظلّ محوراً أساسياً لانشغالاته الصحافية، وفي مقدّمتها حواراته المطوّلة مع عدد من الشعراء والنقّاد العرب، منهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، والشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين.

واشتبك أيضاً مع تجارب شعرية مختلفة في العديد من المقالات النقدية التي سعى في بعضها إلى تأمل جوهر الشعر وشخصية الشاعر، كما في مقال نشره بعنوان "الشعراء في إنشادهم.. هل غادروا من متردم" سنة 2006، وجاء فيه: "الشاعر يقرأ قصيدته بيديه، يحب أن يشرح سياق النص وقصة الولادة، يدبج قصيدة النثر التي يكتبها بقليل من النثر، يقدم النص للمستمع ويوجهه، وفي رأيه أن سوء الفهم لا يقع في الحياة فقط، بل أيضا في الشعر، إنه يقرأ قصيدته وهو يرقص معها، يفتتن بالكلمات التي خطها، وفي ذروة الافتتان يعيد مقطعاً من المقاطع أو يترك الجملة الشعرية المنبورة على طريقته الخاصة أن توجد كإمكان لفظي آخر، وكتحقق لغوي جديد في خصر العربية".

وفي مسار مواز، كانت السياسة خبزاً يومياً لحكيم عنكر يرصد من خلالها الأحداث في بلاده المغرب، وفي أصقاع الدنيا، بعين المتابع التي تمسك بالمفارقات والتفاصيل الصغيرة التي تقود إلى تداعيات كبيرة، ولا تختفي اللغة الأدبية من تشبيهات ومجازات في تقاريره ومقالاته الصحافية، وفي الوقت نفسه لا يخفي انحيازاته حين يكتب رأيه في أحداث كثيرة، فالحرية والكرامة والعدل هي جنة حلم بها الشاعر الدكالي طوال حياته؛ حلمٌ يراود الجميع من المحيط إلى الخليج.

في كتابه "مدارج الدائرة"، يكتب حكيم عنكر: "أمس كنت أمشي/ بلا هدى/ ألف رأسي في شكل مخروطي/ وأرسم دوائر لا تحصى/ في مياه رئتي/ الجو حار يرشح بالجنون/ وألسنة العمال تدلت من البنايات الشاهقة/ فقط كانت أغنية واحدة من النيبال/ تعض جرحاً/ وتقول: لقد نبتت في ظهري/ دمامل الحنين/ والفراشات فرّت إلى الحقول".

المساهمون