حصان إبليس... الدرَّاجة الأدبية

11 سبتمبر 2024
فتَيان فلسطينيان على دراجة بجوار مبنى دمره العُدوان، غزّة، 3 تموز/ يوليو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تاريخ الدراجة الهوائية وانتشارها**: اخترعها كارل درايس في القرن التاسع عشر، وانتشرت بين الطبقة الراقية في أوروبا، وأصبحت وسيلة تنقل صديقة للبيئة وموضوعًا للكتابة.

- **الدراجة الهوائية في العالم العربي**: أطلق عليها المغاربة "حصان إبليس"، وانتشرت في المجتمع العربي، مما أدى إلى تغييرات اجتماعية وثقافية، لكنها لم تحظ بنفس الاهتمام الأدبي كما في الغرب.

- **حوادث مأساوية مرتبطة بالدراجة الهوائية**: فقد الأديب أمين الريحاني والشاعر عبد الأمير جرص حياتهما بعد سقوطهما من الدراجة، مما حول النزهة على الدراجة إلى مأساة إنسانية.

الدرَّاجة الهوائية اختراع حديث يعمل بالطاقة البشرية المحرِّكة لعَجلتَي الآلة، وقد ابتُكِرتْ أواخرَ العَقد الثاني من القرن التاسع عشر، على يد الألماني كارل درايس، وتحوَّلت من لعبةٍ للصغار إلى وسيلة تنقُّل يستعملها الكبار، وعرَفت انتشاراً بين أبناء الطبقة الراقية من المجتمع الأوروبي، ويُروَّج بإلحاح في العقود الأخيرة لاستعمالها - خصوصاً داخل المدن - لكونها صديقة للطبيعة. وتحوَّلت هذه الآلة البسيطة والعجيبة، مع مرور الوقت، إلى موضوع للكتابة، بحيث لم يَكتفِ الكُتّاب بإفرادهم نصّاً أو نصّين لها، بل خصَّها بعضُهم بكُتُب برُمَّتها، نظراً لمكانتها في حياتهم ولمتانة العلاقة التي عقَدها بعضُهم معها.

أطلق المغاربة على الدرّاجة الهوائية التي جلبها الاستعمار اسماً استعاريّاً: هو "حصان إبليس"، وانتشر استعمالها لديهم أيضاً، بل إنها فَرضتْ في المجتمع العربي، شأن المجتمع الغربي، علاقات إنسانية حديثة، ووعياً إيكولوجيّاً، ولباساً جريئاً تَكامَل مع التحوُّلات التي عرفَها مجتمعُهم، خصوصاً ما يتعلَّق بواقع المرأة العربية في المدن الكبرى.

وعلى الرغم من التوافر المُبكِّر للدّراجة الهوائية في العالَم العربي، فإنّ اتّخاذها موضوعاً للكتابة يكاد ينعدم، مع أنّ استعمالها كان متداوَلاً بين مختلف فئات الشعب، وهو أمرٌ غريب إذا ما قارنّا حال هذه الآلة بما عرفته في الغرب، حيث احتُفي بها كثيراً من قِبل الأدباء والعلماء وسائر طبقات المجتمع، ونكاد في بلادنا العربية لا نجد أعمالاً أدبية تحمل اسم آلة التنقّل هذه، ففي المغرب، مثلاً، هناك عمَلٌ بعنوان "التركي: الرجل الذي طار بالدرّاجة"، للروائي محمد أنقار، وهو سيرة غيرية لأسطورة الدرّاجة القومية، الحاج أحمد هروش المعدني الشهير بالتُّرْكي، أشهر درَّاج في تاريخ الرياضة بالمغرب.

أطلق المغاربة عليها اسماً استعاريّاً: "حصان إبليس"

وهُناك عمل مغربي آخَر، صدر للشاعرة المغربية عائشة بلحاج عنوانُه "على جناح درّاجة: من طنجة إلى باريس" يُوحي للوهلة الأُولى بتجربة رحلة استثنائية لامرأة مغامِرة، تمتطي درّاجة هوائية في رحلة من قارّة إلى أُخرى، ومن مدينة أُسطورية إلى نظيرتها في الأسطورية أيضاً، راصِدة المختلفَ، ومُقدِّمة المُدهش اجتماعياً وعمرانياً وطبيعياً وذهنياً وغيرها بكتابة جريئة. لكنْ يبدو أنّ الشاعرة عائشة بلحاج قد اختارتْ، هذه المرّة، لمؤلَّفِها قضايا ثقافية وفكرية وجمالية وغيرها، وأنها تركتِ الدرّاجة الهوائية جانباً.

لكنّ للعرب واقِعتَين أليمَتَين سببُهما "حصان إبليس" الجامح، الذي أنهى حياة أديبَين بارزَين، الأوّل هو أمين الريحاني ابن بلدة الفريكة في لبنان، الذي كان يُقيم في نيويورك، والذي اشتُهر عند تردُّده على بلده الأصلي بتَجواله في بلدته، خائضاً عبر طرقها الجبلية، وهو يمتطي درّاجته الهوائية، وحدث بعد عودته إلى الفريكة من رحلة إلى المغرب الأقصى وإسبانيا، أن تعرَّض، يوم الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر 1940، لسقطة من فوق درّاجته، فرحَل على أثرها، ولمّا يتجاوز الرابعة والستين عاماً، ليُدفَن في بلدته، بعد أن أغنى المكتبة العربية بأعمال لافتة.

وأما الأديب الثاني فهو الشاعر العراقي عبد الأمير جرص (بغداد 1965 - إدمينتون/ كندا 2003)، الصوت الشعري الاستثنائي الذي كان يَعِدُ بالكثير، حتى عُدَّ أبرز شاعر عراقي في العَقدَين الأخيرَين من القرن العشرين، اعتباراً للتحوُّلات التي عرفتها تجربته المعيشية والإبداعية، ولِمَا طبَعها من أصالة وتجديد؛ ولقد صدرت أعمالُه الشعرية الكاملة "حتّى وإن متُّ" بعناية الشاعر نجوان درويش، عن "دار الفيل" في القدس المحتلّة، عام 2017، لتليها مؤخراً طبعة خاصة بالعراق مشتركة بين دار الفيل ودار سُطور. عاش عبد الأمير جرص تجربة انتقالية منفىً مؤقَّتاً في الأردن، ودَخل بعدها تجربة الاغتراب في منفى اضطراريّ هو كندا، لقد خرج جرص ذات يوم في جولة بمنفاه بإدمينتون، على متن درّاجته، وإذا به يرحل إلى الأبدية بعد سقطة مُميتة هو الآخر. 

بهاتَين التجربتَين الإنسانيتَين تحوّلت النُّزهة على متن الدّراجة، التي عُدَّتْ دوماً من أرْوع مُتَع الدنيا، إلى مأساة إنسانية حقيقية، لأنها اختطفت من فضاء الإبداع قَلمَين يشهد لهُما النقد الأدبي بالإضافة والتميُّز في مجال الكتابة.

* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون