حروب غزّة وذهولُ المثقّفين

15 أكتوبر 2023
من مشاهد العدوان الإسرائيلي على غزّة، 14 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

جرت العادة أن تقترن المنعطفات التاريخيّة بدورٍ ما يؤدّيه المثقَّف. ما يجري الآن في غزّة الفلسطينية وغلافها من بين هذه المنعطفات التي سيكون لها تأثيرٌ حاسم في حركة التاريخ القادمة، وفي الوعي بالعالَم وبنظامه القيميّ والمعرفيّ. لذلك، يُثار السؤال المشروع عن دور المثقَّف، الآن وهنا، سواء في قراءة هذا "الطوفان" الذي زلزل مسار الأحداث، أو في استشراف أبعاده وتداعياته المستقبليّة على الخطاب العربي وعلى توجّهاته. غير أنّنا، ومن جديد، نلاحظ الغياب الصارخ لأيّ دور للمثقّف العربي، مع أنّه تعوّد الحضور، في أوقات الرخاء، ينتقد التراث العربي ويُبشّر بقيم الحداثة.

نشهدُ اليوم صمتًا مُطبقًا، لا سيّما من "المشاهير"؛ مثل الطاهر بن جلون وليلى سليماني، ولِمَ لا نذكر أمين معلوف، آخر من وسّمته فرنسا لدوره في "الحوار الثقافي". لا أثر البتّة لأيّ واحدٍ منهم. كأنّ الخوضَ في هذا الامتحان العسير الذي تُواجهه الإنسانيّة لا يعنيهم، ولا يدخل ضمن النشاط العقليّ والخطابيّ الذي برعوا في تطبيقه على "الهويّات المسحوقة"، وقد روّجوا له على أنّه تحليلٌ لمعنى المنعطفات واستطلاع لتحوّلاتها.

نلاحظ في الأفق المنسدّ عطالةً وذهولاً أصابا الجميع بالصدمة القاتلة نفسها. ولعلّه "تعالٍ" عن زبد التاريخ الذي سيذهب بعد أيام جفاءً، حين تغيب عن الشاشات صور الدمار وتُستعاض بأخبار تافهة. لكن أيّة محنة للبشريّة أكبر من هذا الذي يجري أمام العيون والعقول، فيكتفي فيه المحلّلون بمجرّد "التعليق"، حيث يسود في المشهد الثقافي كُتّاب الرأي الذين ينشطون في الصحف العربيّة الشهيرة، مع أنّهم لا يمتلكون، في الغالب، الأفقَ الذهنيّ والمنهجيّ الذي يساعدهم على فهم الأحداث، ناهيك عن التأثير فيها، إما بشكل قبليّ أو بعديّ.

يغيب مثقّفون عرب وقد تعوّدوا الحضور في أوقات الرخاء

ولذلك، انهالت تحليلاتٌ انفعاليّة عابرة تؤكّد بسطحيّتها غياب أيّ دورٍ للمثقّف العضويّ وانعدام نظرة متبصّرة لحروب غزّة، وقد طالت وتعدّدت. بل قد يصل الأمر بهؤلاء الكتّاب إلى الخوض في أيّامَنا هذه رغم ما فيها من ألمٍ، في مسائل ثانويّة لا علاقة لها بما يجري في فلسطين. وقد تصل العَطالة ببعضهم إلى تبرير اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي أصلاً، وإلى النظر إليها من خلال الموقف الأوروبيّ الذي لم يُخف انحيازَه المطلق واللامشروط لسرديّة الكيان الإسرائيلي.

فهل قَدَر المثقّف العربي، كما كان إبّان "الربيع"، أن يظلّ سادرًا على الهامش، يراقب الأحداث كأيّ مُواطن بسيطٍ، وقد تساوى معه في مقام الذهول حتى لم يعد قادرًا على صوغ خطاب، "مع توفّر الدواعي إليه". فقد أبان رصدُ مقالات الرأي هذه عن بؤس تحليليّ بتخلّفها عن أحد أهمّ المواعيد السياسيّة والعسكريّة التي ستُغيّر مجرى الأحداث طيلة هذا العقد.

فغالبُ "التعليقات" الواردة فيها، والتي لا تستحقّ اسم "تحليل"، يتوجّه إلى الاستهلاك الآني، في سائر وسائط الصحافة المرئيّة والمسموعة والمقروءة. وهي لا تهدف إلى وضع حروب غزّة ضمن صراع أشمل بين نماذج سياسيّة متباينة في الحكم وتنظيم الحياة الاجتماعيّة ورؤى الأخلاق، فضلاً عن التوازنات الإقليميّة والتنافس الجيوسياسي بين محاور المقاومة والاعتدال. هي فقط "تدخّلات" عابرة، لا مدى لها سوى الإرضاء السطحي لتوجّه الصحيفة أو القناة التي يُعمل لصالحها، أو لتوقّعات الجمهور، وغالبها انفعاليّ، دون الأخذ بعين الاعتبار تعقّد الظاهرة المتناوَلة وتشابك أبعادها.

تصل العطالةُ ببعضهم إلى تبرير جرائم الاحتلال

وقد جرت عوائد التاريخ أن تصنع حروبُه المفصليّة رجالَ ثقافة أفذاذ وأن تبرز رسالتهم العضويّة في قراءة الأحداث ثمّ في توجيهها. حروب غزّة لم تولّد مثقّفين بمثل هذه الأصالة، ولا حتّى مفكّرين يَحدوهم وعيٌ تاريخيّ معمّق، لا تحجبه الأحداث العابرة ولا فقاعات الأخبار التي تتناسل بشكل عاجل كلّ دقيقة. فكُتّابنا لا يتعالون، في لحظة التاريخ هذه، عن المنظورات الضيّقة، أكانت حزبيّة أو منهجية، من أجل التفهّم العقلاني لهذا الذي يحدث، وتسميته على الوجه الدقيق، في انتظار خلق خطاب ثقافي يعمل كقوّة ناعمة مؤثّرة في الوعي العالمي، خطابٍ لا ينفعل، بل ينتج تحليلاً عقلانيًّا. لا يصرخ ولا يغمغم شعرًا، بل يسبر أبعاد ظلمٍ تاريخيّ لا ريب فيه.

ثمّ لماذا لم تصنع كوارثُ غزّة وأخواتها، رغم تعاقبها وتكراراها، وعيًا أدبيًّا يُخرج الكتّاب العرب من أكوانهم الهلامية التي أغرقت في ذاتيتها بسبب تقليد موضوعات الغرب وإسقاط قضاياه على سياقاتنا، كأسئلة الجسدانيّة والجندرية وغيرها؟ حتى صخرة الواقع الأليم التي يصطدم بفظاعاتها لم تردّهم إلى حقيقة الوعي الذي يتوجّب بناؤه في نصوص التخييل.

هكذا، يعيش الفكر والأدب العربيّان حالة من الذهول مروّعة، عطالة كاملة تَمنع العقل العربيّ من الإدراك الموضوعيّ وتحول القلمَ دون التعبير الصائب الدقيق عمّا يحصل على مرأى ومسمع من الضمير العالمي، بما في ذلك قانونه الدولي. تدكّ الحربُ أحياء غزّة دكًّا دون أن يصل أزيزها إلى مسامع كتّابنا السادرين في أوهامهم ولذّة ذُهولهم.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية
 
المساهمون