حدائق العاشق (6): السفينة

08 يوليو 2023
أدهم وانلي/ مصر
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


لأنه لا يوجد مكان حيث يمكننا البقاء.

(ريلكه) 

يجيء حمدُ إلى الصحيفةِ من مكان مجهول، ويصبح مستشاراً لشؤون الجزيرة العربية والقارّات كلّها. كلُّ ذلك قبل أن يتحوّل إلى رجلِ أعمال يجوب القارّات كلّها فعلاً، ولا يتذكّر أحداً إلّا حين يسكر وحيداً.

أجمل ما فيه أنّه يُجيد الفرنسية، والبذيئة بخاصة، تلك التي كانت تحيل وجوهَ الفرنسيات إلى حُمرة قانية في حفلات الاستقبال الرسمية، ويُثير فضولهنّ هذا البدويُّ الذي يسمعن في صوته نغمةَ أزقّة باريس المُظلِمة.

لم يكن هذا هو جمالُه الوحيد، فقد أضاف إليه ملحقَ البناية الذي يسكنُه، وحوّله إلى ملتقى ليلِيٍّ بدأ يرتادُه حتى أصحاب الصحيفة، مدفوعين بالفضول.

- "الكثيرون سقطوا في الفراغ".

هذه هي البداية المُفضَّلة لحكاية جديدة يرويها حمد. وهذه المرّة كانت صورةً عالقةً في ذهنه عن الهجرات الأُولى: رجُلان يغادران الليلَ الكهرماني لقريته الصحراوية باتجاه البحر، يتوقّفان عند منحدرِ الكُثبان، حيث أُقيمت قريةٌ للصيَّادين وتجّار اللؤلؤ، وأسواقٌ لعطور الهند وزنج أفريقيا، فيُقيمان ويشتغلان بالتجارة معاً. 

قبل أن يبدأوا الرقص، يضعون هيكلَ سفينة رمزية على منصّة عالية

كانا شابّين يتّخذان طريقهما ليلاً إلى الحيِّ المُعتِم العابق برائحة التراب وعرق النسوة. وفي العتمة حيث تبدو الكائنات خرافيةً والنساءُ طيوراً آتيةً من غسق بعيد، كان للسرّية متعتُها. وأصبح الليلُ عادةً يومية، إلى أن جلسا ذات يوم يحسبان كم يظلُّ من كسب النهار، وكم يضيع في الليل. وتوصّلا إلى أنهما إذا استمرّ بهما الحال هكذا، فلن يُثريا أبداً. وهكذا اتفقا على دواءٍ موصوف يحميهما من شبق يأكل الروحَ كلّما غابت الشمس، وبرزت أجسادُ النساء في نهاية نفق النهار.

تناول الأولُ دواءه، وتردّد الثاني، توقف ثم ألقاه جانباً.

- "هكذا انقطع نسلُ الأوّل وازدهر نسلُ الثاني. لم يبق من عمّي الهرمِ سوى الحسرة والوحدة، وهو ساهمٌ في ظلال الشيخوخة والعجز والخيال الجارح، وذكرى ذلك الحلف الذي عقده مع أبي لينقذا نفسيهما، فسقط وحده في الفراغ".

تُغيِّر البيوتُ أشكالها، تُصبح مجازاً شعرياً أحياناً، وكذلك الأسماء. كسرى لم يكن سوى ربطةِ عنقٍ عريضة ملوّنة على قميصٍ واسع مطرّز بكل أشكال النبات، وعَينين تذكّران بعينَي ابن عرس، ماكر يتطلّع من وراء نخلة نحيلة. تفصلنا عنه طاولةٌ واحدة في مقهى "رصيف". يُصاب خيري بالفضول فيسأله إن كان فناناً. يتردّد كسرى، لا ينفي ولا يؤكّد، يكتفي بإيماءة غامضة. ينتقل إلى طاولتنا، وما إن يستقرّ به المكان حتى ينطق بتساؤله الأول: 

- "ما الذي أفعله مع هؤلاء الذين يرمون قمامتهم فوقي؟". 

حسبتُ هذا التعبير مجازاً شعرياً، لأعرف فيما بعد أنّ حياة كسرى تخلو من المجازات والاستعارات ومن الفنّ حتى. سأصطدم به فيما بعد في أحد شوارع عمّان المكتظّة بين المسجد الكبير والملعب الروماني، ناحلاً، مشعَّث اللحية بمعطف بال، وبنطلون واسع، والعينان الماكرتان نفسهما. 

كان يتحدّث عن واقعةٍ فعلية، فهو ينام ليلةً بعد ليلة في منور إحدى البنايات، ويصحو صباحاً، فيجد جسدَه مغطّى بأوراق الصحف وعلبِ المشروبات الفارغة.

يحدّثني خيري عن عودته مع ابن عمٍّ له من القاهرة بعد حرب حزيران. لم يجدا شيئاً يفعلانه سوى محاولة التسلُّل إلى الضفّة الغربية، والعودة إلى القرية المنسيّة بين التلال، أو بيع البطيخ في عمّان. بكى ابن العمّ من فكرة بيع البطيخ. فقرّرا أن يُغامرا ويتسلّلا إلى قريتهما مهما كان الثمن. إلّا أنّ المقام لم يطُل بهما، إذ وشى بهما قريب، واعتقلتهما الشرطة الإسرائيلية.

قال له الضابط:

- "كم عمرك؟".

- "عشرون عاماً!".

ضحك الضابط ذو الملامح القوقازية، وعلّق: 

- "جيلي من جيلكَ".

ومن نافذة الزنزانة الأرضية شاهد المجنّدة الإسرائيلية مسترخيةً على مقعدها في الشمس وإلى جانبها بندقية. بنطلونها القصير يكشف عن فخذَين مُمتلئَتين.

كان هذا آخر مشهدٍ التصقَ بذاكرته، وهم يقودونه إلى الجسر. تركوه ليقطع المسافة إلى الجانب الآخر وحيداً.

في مُلحق حمد بدا لي جعفر ببطالته المزمنة، وشيوعيته البسيطة، نسخةً من علاء الدين في انتظار العثور على المصباح السحري، ليحظى بجواز السفر والوطن وأيام النخيل مجدَّداً. كان هرمهُ المبكّر يجعل يديه ترتجفان، وصوته يتقطّع، وأجفانه تنتفخ بلا سبب.

نهارٌ عصبيٌّ آخر تحسب أنه جاء لتوّه من أطراف الرّبع الخالي سيراً على قدميه، فاستحق لقب "أبو جهل" اختصاراً للتحليل والتفسير. أما عامر المُنكمش تحت نظّارته دائماً فقد حاولنا العثورَ على لقب مُناسب له، فاحتجّ نهارُ وثار:

- "كيف تشتُمون أبو ناصر؟".

همس أحدهم بجانبي: 

- "بهذه الثورة العنيفة تصوّرتُ أبا ناصر بطلاً قومياً، فإذا هو هذا الذي يتّكئ إلى جانبي نصف ذاهل". 

كان ذلك آخر مشهدٍ التصق بذاكرته، وهم يقودونه إلى الجسر

يتولّاني شعورٌ بأنّ الطالبة التي رسمها التلاميذ الثلاثة، لا تزال في جلستها المُنحرفة تلك، في مرسم الكلّية لم تُغادره بعد كلّ هذه السنوات. غير معقول بالطبع. سقطت أمطارٌ كثيرة منذ ذلك الزمن، وازدهرت الدفلى أمام بوّابة الكلية وذبلت ثلاثين مرّة على الأقل، ولكنْ لماذا لا تظلّ هناك ما دام خيالُنا يثبّتها، ولو على هيئةِ فراشة تحت زجاج الماضي؟ ولماذا هي بالذات؟ هل لأنّها أول نموذج حاولتُ رسمه؟ أولى اللوحات التي بدأت تستعصي على الاكتمال، فتترك نصفَ مرسومة هنا أو هناك؟

لاحظ الأستاذُ المشرفُ أنني رسمتُ لوحتي في أوقاتٍ مختلفة، الضوءُ والظلُّ لا يتوقّفان عن التنقّل، ويصعب تحديد مصدر الإضاءة، لم أكن واثقاً ممّا أرى، أو لا أُريد أن أرى ما أمامي بالضبط. يَئِستُ من محاولة الأوضاع التي اتّخذها وجهُها على اللوحة، كنتُ أغيِّر الوضعَ كلّ يوم، إلى أن انتهى الأوّلُ من الرسم، وأعطاها بشَرةً وردية، ونحولاً يُشبه نحول القدِّيسين، فتوقّفتُ ولم أُكمل اللوحة. 

غيفارا يحوّل العالَمَ إلى غابةٍ مُمكنة، متاهةٍ يختبئ فيها البرّي والبدائي إلى أن تتهرّأ المدينة، فيخرج من الغابةِ بأسمالهِ وجيشه القليل المُلتحي ليسحقَ بقايا الجيش المُتحلّل. ويتذكّر جورج بشغف كيف كانت السيمفونية التاسعة لبيتهوفن تُرافق أحد قادة المقاومة السرّية الفرنسية في قبوٍ تحت الأرض: "حين تلطّخت بالنبيذ، وكادت تقع على الأرض أمسكها بحنان مثلما يُمسك الإنسانُ بشظية من روحه".

يروي الحادثة بشهيّة عجيبة، ويفكِّر ربّما مُبتهجاً بذلك الموت الذي سيُصادفه فوق قمّة جبلية يغطّيها بياضُ الثلج في منتصف ليلٍ ما، إلى أن يغيبَ تحت النثار الأبيض. 

بائعة الهوى القبرصيةُ تلمس كتفي: 

- "يوناني؟". 

- "نعم". 

- "ولا تجيد اليونانية؟".

- "لأنني يوناني ولدتُ في جزر القمر ونشأتُ في إسبانيا، ومن هنا شعري الأسود وبشرتي النُّحاسية".

- "لغتكَ جميلة، اطلبْ لي كأساً".

عددٌ من العجائز في مقهى يتحدّثون عنّي، ويُطالبون أن أكتب وأكتب عن الكنعانيّين: 

- "ليس لدينا أحدٌ مثلك.. اكتب لنا".

سألتني امرأةٌ فنزويلية مطلقةٌ عصبيةُ المزاج عن بلدي، فقلت: 

- "لا بلدَ لي، أنا راحلٌ عبر المتوسط منذ مئات السنين ولم أصل بعد".

- "فينيقيٌّ إذاً؟". 

- "ربّما".

في بارِ "بابلون" لا أدري كيف انفردتْ بي الفنزويليةُ لتصُبّ كلّ عصبيّتها على العرب، وأنا أتموّجُ مثل ريشة خفيفة مفكّراً بمشهد جسدها القاتم على فراشٍ أرجواني تحت شعاع شمس صباحية. البحرُ قاتمٌ بلون الخمر.

سوتيري مترهّل الجثّة أصلع قليلاً، يتحدّث وهو يقطّع اللحمَ على خشبةٍ عريضة مخضَّبة بالدُّهن وبقايا العِظام، بينما تُواصل زوجتُه إعداد القهوة أمام النافذة:

- "أنتم كريتيّون هاجرتم إلى فلسطين... يونانيّون مثلنا". 

وجهه محمرٌّ قليلاً، مُشمشةٌ أصابها النمش.

- "من هنا لوني النحاسي وشعري الأسود". 

تهزّ بائعة الهوى القبرصيةُ رأسها غير مصدّقة، وتطلبُ كأساً أُخرى. منتصف الليل.

يهمس جاري:

- "خُذها... خُذها لليلة واحدة". 

- "هذه؟". 

تطلبُ كأساً.

- "آسف لم يبق لديّ نقدٌ كاف".

تواصل الجلوسَ بلا اهتمام. الليلةُ نفسها التي شاهدتُ فيها أفريقيا تُلقي خطاباً حماسياً أمام مُستمعين لا مرئيّين. الليلةُ نفسها التي ضجّ فيها التلفزيون بالغناء، وتحلّق الشاربون أمامه، وبدأ يتوافد جوّالون من آخر الليل.

تتثاقل بائعة الهوى وهي تنهض، تضع معطفها على كتفها. تحدّق بي بعينَين غاضبتَين سوداوَين. أتطلّعُ إلى لا مكان. تُدير ظهرها وتغادر.

يتحدّث جعفر عن بحيرة النخيل. حارة العبيد. أصوات الطبول:

- "قبل أن يبدأوا الرقص، يضعون هيكلَ سفينة رمزية على منصّة عالية، وحين يأخذُ السُّكرُ منهم كلَّ مأخذ، يدمدمون بكلام غير مفهوم بلُغات غريبة. يستيقظ لاوعيهم الغارق في العتمة، السفينة ذاكرة، تلك التي جاءت بهم، وها هم يعودون عبر الرموز".

بافلوف يتمسّك بخزانة الجوز الخشبية... جين تبكي يائسة، ربما لأنها لا تزال تبحث عن خزانتها... ناجي يسقط في شارع لندني، بعيداً عن خزانته... وعجائز يهمسون:

"اكتب لنا... اكتب... عُد إلينا".

وتهمس الكاهنةُ بصوت مبحوح:

"سأجعلكَ كاهني الوحيد... متاهتي الوحيدة".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون