حب عن بُعد عشرة أمتار

29 ديسمبر 2020
"بابا نويل" في عشوائيات قرب مدينة البصرة (حسين فالح/Getty)
+ الخط -

هذه ليست سيرةً شخصيةً لمرض متطوّر، إنها أُحجية عن الحب الذي أعرفه. كنت في بداية نشأتي قد تعرّضتُ لمشاكل صحّية كثيرة مرتبطة بتحسّس الدم، حيث يسخن دمي فجأة لأسباب غير مفهومة، ولم يكن تشخيص الطبيب غير أنه نوع من الحساسية لبعض المأكولات، لذا نصحني بالانقطاع عن تناول البقوليات والفاصولياء على وجه الخصوص.

استجبتُ لتوجيهات الطبيب وانتظمتُ على ذلك لمدّة طويلة حتى ظننتٌ أنني شفيت تماماً، لكن سرعان ما عادت الأعراض تظهر من جديد، وعندما عدتُ لزيارة الطبيب، اقترح أن أتوقّف عن تناول التوابل لأنها من الممكن أن تكون المسبب لذلك الغليان.

وكنت في عمر صغير جدًا، لأملك قائمة طويلة من الممنوعات، أكثر من قائمة جدّي الذي يناهز السبعين عاما، حيث كانت أمي تعدّ لي صحناً خاصاً خالياً من البهارات والفاصولياء والفلفل، وصار يصعب عليّ مشاركة العائلة بطعامها. وحتى قِدْر "الدولمَة" الذي يُطهى عادة بنوعين، حامض وحلو، لا يمكنني تناوله، وصار عليه أن يُعَدُّ في بيتنا تحت اسم "دولمة حمزة" والتي تكون من دون ملح وتوابل. كنتُ انتظمت على هذا المنع وخشيت على دمي الحار من الغليان، إلا أنني لم أنجُ أيضاً، فقد عاد دمي للغليان من جديد، ولم يكن أمامي سوى مراجعة طبيبي من جديد، والذي صمت طويلاً بعد أن استجوبني عن كل ما فعلت في الأيام السابقة، ووفقاً لإجاباتي اعتقد أنّ دمي يستجيب لبعض الانفعالات النفسية لذا طلب مني ألا اغضب أبدًا.

فقلت له: كيف يكون لي ذلك يا دكتور؟
أجاب وهو يرفع كتفيه من الحيرة: لا أعرف، إن كنت تودّ أن تحمي دمك من الغليان فلا تورّط نفسك بأفعال تقودك إلى الغضب.

كانت هذه أصعب مرحلة من مراحل مرضي الغريب هذا، كان عليَ اختراع طرق وآليات للعيش بلامبالاة، صحيح أنه لم يكن شائعاً عنّي أنني أغضب بسرعة، لكني مع تنبيهات دمي الحار لما يغضبني ويثير حفيظتي، اكتشفت أن ما من يوم يمرّ على المرء إلا ويغضب حتى لو كان غضباً هامشياً.

ذهبت للكثير من الأطباء النفسيين لكن لم ينفعني أحد

ذهبت للكثير من الأطباء النفسيين، لكن لم ينفعني أحد منهم. فكّرت أن أصير بوذيّاً لأصل لتلك المرحلة التي ترتفع فيها روحي للأعالي، تطير فوق الأرواح، لأكون غير عابئ بأمر البشر، ولا أرى في نفسي منافساً لهم؛ إلا أنه حلٌّ يتطلّب الكثير من التمارين والتضحيات.

وبمزيد من الصبر وتمارين التأمل، وصلتُ إلى ما كنت أرمي إليه. بردت روحي وهدأ دمي وشفي قلبي من شرور الآدميين، وصرتُ حتى وأن أُقحمتُ في منافسة بشرية تجاوزت عنها وصفحت عن صاحبها. كنت أشعر بالرضا التام وأشكر دمي المشتعل على ما وهبني إياه من تنبيه ومراقبة لتصرّفاتي. لكن سرعان ما عاد دمي يغلي وقلبي يرتج، حدث ذلك عندما رأيتها أول مرّة. كانت تمرّ خاطفةً كأنها البرق، لمحت وجهها – وبوصف دقيق للمشهد كنت قد لمحت نصف وجهها المُشع وشكّلت النصف الثاني في خيالي- وحين ابتعدت عنّي وصارت في نهاية الطريق، شعرت بلوعة في نفسي وحرقة في قلبي وضيقٌ في النَفَس. اشتاط دمي فجأة وسقطتُ مغشياً عليّ. 

حملوني للمشفى وعندما أفقت، وجدتُ طبيبي نفسه يسألني: ما حدث، أخبرني؟
أخذتُ أستعيدُ ذاكرتي وأتفحّص مشاهداتي حتى نطقتها ونظري ما زال مستقراً في إحدى زوايا الغرفة: الحب هذه المرّة يا دكتور.
التفّ حول نفسه ورفع رأسه للسقف ثم نفخ ما بصدره وقال: هذا ما كان ينقصنا الآن.
قلت له: ستخبرني أن لا أحب، أليس كذلك؟
أومأ بالإيجاب.
ضحكت وقلت له وكيف سأفعلها هذه المرّة يادكتور؟
قال: هذه مشكلتك، الحل ليس حلاً طبياً، إنها تصفية حساب مع الروح، أنا لا أملك النصيحة، اذهب أنت ودمك الساخن هذا، لا أستطيع مساعدتك.
صرتُ كلّما ارتفعت حرارتي فهمت أنها في مكان ما حولي، دمي صار يعمل كرادار يدلني إليها، وكلما اقتربتْ منّي صرت أشتعل وأسقط مغشياً عليّ.
حتى تنبّهتْ لسقوطي في المرّة الرابعة. وكانت أول جملة كتبتها لي: "أيها الولد الضعيف الهزيل إن كنت صغيراً على الحب، فمن ورطك به؟".

بعد ذلك وصلنا إلى حل، أن ندخل في "علاقة هوائية" حسب ما وصفتها هي، حيث أقدمنا على حساب المسافة القصوى التي أكون فيها ودمي بوضع آمن، وكانت ما يقارب العشرة أمتار.
وعلى أثر ذلك، صغنا علاقة حب يشترط فيها التباعد حفاظاً على صحتي وحياتي الهشّة.

الحل ليس حلاً طبياً، إنها تصفية حساب مع الروح

كنّا نتبادل الابتسامات ونلوّح لبعضنا من بعيد، ومن ثم انتقلنا لخطوة جدّية سريعة، لن يتوقعها أحد، فقد تزوجنا رغم أننا ما زلنا نحتفظ بمسافة العشرة أمتار التي تعرفونها.

حيث أصبحت تشغل هي الطابق الأول من البيت وأنا أنام في الطابق الأرضي، تصحو قبلي تعدّ لي الفطار وتذهب للعمل، وعند الظهر أجد الأكل الذي تحب أن تشاركني إياه في المطبخ، وبعد أن أنتهي أكتب لها لأشكرها على الأكل اللذيذ.
أحيانا أفاجئها بعودتي المُبكرة وأصنع لها صحن المعكرونة الذي تحبّه، وفي أحيان كثيرة أغسل الصحون وأترك لها على التلفاز فيلماً من اقتراحاتي.

أكملنا ثلاث سنوات على هذا الوضع. كانت سنوات شديدة الحب، لم أشعر في حياتي أن للحب طاقة متقدة مثلما تلمسته معها، كنّا نحب بعضنا فعلاً ولم يعقنا أننا لم نلتقِ حتى داخل البيت أو أن هذا الحب يفتقر للقُبَل والملامسات.
لن أجد أيّ عائقٍ يُذكَرُ كان ليبعدني عن التفكير بها.

إلّا أنها في اليوم الذي تلا احتفال العيد الثالث لزواجنا، وما زالت بقايا الكيك في الثلاجة، حدث أن نزلت دون أن تكتب لي وصرنا على بعد ثمانية أمتار تقريباً. صحيح أنها مرّت بسرعة حتى أنني لم ألحظ وجودها، إلّا أنها كتبت لي تخبرني بخيط من الشك تسلل لقلبها وهي تتساءل إن كنتُ توقّفت عن حبّها مثل السابق. 

صارت تتربص بي وتختبرني، ففي نفس اليوم ليلاً، نزلتْ على أطراف أصابعها دون أن أشعر بذلك لتقترب منّي، كانت تسير خلفي، ربما على بعد خمسة أمتار مني ولم ينبهني رادار دمي بوجودها ولم أسقط مغشياً عليّ مثلما كان يحدث.
لكنّي سمعت صوت صعودها على الدرج وهي تركض باكيةً.

لم تنتظر كثيراً، ففي أول الصباح غادرت المنزل، تاركةً لي رسالة مفادُها أنني توقّفت عن حبّها ولم أعد أشتعل من أجلها.
وإلى الآن وأنا أجلس وحيداً في هذا البيت الحزين لم أعرف هل توقفت عن حبّها فعلًا، أم أنني شفيت؟


* كاتب من العراق

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون