حالة الأخلاق

29 ديسمبر 2023
أب فلسطيني يحمل ابنه الرضيع في دير البلح، 27 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

في أيّ جردة سريعة للمكتبة العربية، سوف نعثر على العشرات من الكتب المُترجمة عن معظم اللّغات الأوروبية موضوعها "الأخلاق"، من سبينوزا إلى كانط ودوستويفسكي، إلى ماري ميدلجي أو غيرها. قد تكون بضعة كتب من بينها أشارت إلى أنّ قتلَ الأطفال والنساء والرجال الأبرياء في الحرب عمل لاأخلاقي.

لكن مثال غزّة جديدٌ على علم الأخلاق العالمي. وهو يقسِم العالَم اليوم بين من يؤيّد الحرب ويعتبر الانتصار مجرّد مدخل لقتل الآخرين والتخلّص منهم، وإفساح الطريق لصاحب القوّة وحده كي يعيش "بسلام"، وبين من يدينون الحرب التي تقتل الأبرياء، ويدعون إلى وقفها. 

ولهذا نجد سيناتوراً أميركياً بارزاً يتجرّأ على القول إنّه لا يرى ضرورة لمراعاة المدنيّين في الحرب الحديثة، أو بالتحديد لمراعاة الشيوخ والأطفال والنساء في حرب "إسرائيل" ضد غزّة.

يمكن اعتبار موضوع الأخلاق، والموقف منها، وحالتها، وصحة توجّهاتها، واحداً من أبرز ما يُشير إليه معارضو "إسرائيل" والحرب الإسرائيلية على غزّة، في الفكر الغربي اليوم. وعلى الرغم من أنّ معظم منظّري الأخلاق أشاروا إلى أنّ الأخلاق ليست نسبية، أو تجريبية، فإنّ سلوك البشر اليوم، في القرن الحادي والعشرين، يثبت أنّها كذلك، بعد أن وُضِعَ السّاسةُ والمثقّفون والصحافيّون أمام اختبار الحقيقة.

أب فلسطيني يحمل ابنه الرضيع في دير البلح، 27 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 (Getty)
 

والقضية بهذا الشكل تطرح أسئلة عديدة، ومنها مثلاً: هل كان السيناتور يدعو مثل تلك الدعوة لو كان ابنه أو ابنته في المدينة ذاتها، وهو أو هي عاجزٌ عن النجاة؟ ما الحكمُ الأخلاقيّ الذي يُمكن أن يلتزم به؟ وقف الحرب؟ أي أنّه يمكن أن يدعو إلى وقف الحرب من أجل ابنه وحده، هذا ما يدعو إليه المتظاهرون في تل أبيب: وقف الحرب أو هدنة تُخرِج أبناءَهم من غزّة. أذكر أنّ مثقّفين عرباً لم يأبهوا بقتل الأطفال حين كانت تُقصف المدن والقرى السورية.

وبهذا المعنى من الضروري أن نشير إلى أنّ البشرية جمعاء مدعوّةٌ لإعادة النظر في ذاتها، ومواقفها الأخلاقية، لا في المبادئ. فما يفكّر به السيناتور الأميركي يشير إلى انحطاط أخلاقي يخصّه. وكذلك الأمر في ما يخصّ أي كاتب عربي سبق أن ناصر القنابل والطائرات والمدافع.

الأخلاق، بما تتضمّنه من قيمة تُعلي من شأن الإنسان ومبادئ الإنسانية، يجب أن تكون شاملة، وليست تجريبية، وهي ليست أخلاق الرجل الأبيض وحده، ولا أخلاق الكاتب الذي يؤيّد محور المقاومة الإيرانية أو الروسية وحده. فالطفل هو ابن الإنسانية جمعاء، وكذلك المرأة، والرجل غير المحارب، أو من يطلق عليهم في السياسة المعاصرة اسم "المدنيون"، وهم اليوم من يضعون العالَم أمام امتحان الأخلاق.

المؤسف أنّنا نكتب بعضنا لبعض، في لحظة انفصال فظيعة بين الثقافة والسياسة، فالسياسي العربي يخشى أن يقول: لا لـ"إسرائيل"، بصوت مرتفع. يخاف أن يصرخ في وجهها، ودعك من استخدام أيّ سلاح، بينما تحاول الثقافة العربية أن تتدارك ما فاتها وهي تتبع للغرب في كلّ أو أغلب أنماط التفكير.

يبدو أنّنا بانتظار أن يتغيّر ميزان القوى الأخلاقي عالمياً، كي نستطيع أن نصحّح وضع القضية الفلسطينية أخلاقياً، وهو أمرٌ لا يزال مُرتَهناً بقوّة إلى طبيعة الصراع الذي نشأ عالمياً بين أجيال مختلفة في الوعي الغربي حصراً.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون