جمهورية الاستبداد الأدبي

07 يوليو 2023
لوحة "صورة جيمس جويس" للفنان لويس لوبروكي، معروضة بمزاد سوذبيز في لندن (2019/ Getty)
+ الخط -

تقول باسكال كازانوفا في كتابها "الجمهورية العالمية للأدب" (المشروع القومي للترجمة، 2002)، إن البطش الذي يمارسه التاريخ المعاصر في المجال الأدبي، يصعب علينا تجاوزه، أو إلغاؤه، ذلك لأن العالَم المعاصر، وبسبب الممارسة الاستعمارية التي صار عمرها يزيد عن القرنين، قد وطّد دعائم مركز، أو مراكز أدبية، استطاعت أن تكون مصدراً أو أساساً لشهادات الاعتراف بالأعمال الأدبية في العالَم كلّه، بما في ذلك تلك التي تصدر في المركز ذاته.

يضعنا كتاب كازانوفا أمام حقائق لا يزال معظم الكتّاب في العالم، وفي العالم العربي خصوصاً، يحاولون تجاهلها، أو نسيانها، أو القفز فوقها، إذ يحركهم الأمل في أن يكون ما تقوله هذه الكاتبة ليس صحيحاً في ما يتعلق بموضوعة الانتشار على الصعيد العالمي. تستعير الكاتبة مصطلحات الاقتصاد والسياسة لموضوع الأدب، فهناك أسواقٌ للألفاظ والسلع الفكرية، ورأسمال ثقافي، وقوانين للاقتصاد فكريّة، ويتحكم بكل هذه المنتجات مركزٌ عالمي، يمكن معرفة مكانه، ذلك أنّه يرتبط بالضرورة بالموقع الاستعماري. فإذا كان العالم جمهورية للأدب، فإنّه يحتاج إلى عاصمة، وإلى مدن تابعة لهذه العاصمة، وسوف تكون لهذه الجمهورية محافل مزوّدة بسلطات قادرة على وضع التشريعات الأدبية التي يتقرّر بموجبها ما هو الأدب، وما هو الأدبي، ومن هو الكاتب الذي يحق له أن يتبوأ مكانة ما، تعلو أو تنخفض، بحسب ما يقرّه "علماء" هذه الجمهورية في العاصمة. 

يرتهن معظم القرّاء في العالم لمنطق السيادة والتفوّق الأدبي

لسنا أمام واقعٍ خيالي، فالأحكام التي يصدرها النقاد "الأكثر نفوذاً والأكثر خبرةً"، بحسب تعبير باسكال كازانوفا، بالإقرارِ أو الرفض، أو التجاهل المتعمَّد أو غير المتعمَّد، تستتبعها آثارٌ موضوعية يمكن قياسها في العالم الأدبي. والمثال الذي تقدّمه هامٌّ للغاية: فاعتراف المحافل الأدبية العليا في العالم الأدبي بجيمس جويس رفعه في الحال إلى وضع كاتب "مؤسِّس"، وحوّله بطريقة ما إلى "وحدة قياس" أدبية تمّ عن طريقها "تقييم" باقي النتاج الأدبي في العالم. وما يحدث في هذه الحالة، وفي حالات عديدة شبيهة بها، هو أنَّ النصَ المُعترَف به يخرج من دائرة المنافسة الأدبية في العالم كلّه ـ وهذا شأن "يوليسيس" أو "الأب غوريو" أو "مدام بوفاري" أو "الصخب والعنف" أو "الإخوة كارامازوف" ـ ليصبح "كلاسيكياً" ويتجاوز اللحظة الزمنية.

يرضخ العالم كلّه لقرارات العاصمة الأدبية، دون أن يقبلَ بالضرورة، والحقيقة أن في العالم اليوم عدة عواصم لا تزال قادرة على وضع شروط بورصة القيَم الأدبية التي تُقرَّر وفقها الأعمال المرشّحة للعالمية. واللافت أن يكون معظم القرّاء في العالم الآخر مرتهِنين لمنطق السيادة والتفوّق الأدبي الذي توحي به عواصم الأدب.

ما تقوله الكاتبة لا يمنح أي أمل للكتّاب في العوالم الأُخرى التابعة، ليس بسبب ضعف الإبداع الأدبي، بل بسبب عجز المحيط عن منافسة المركز حتى اليوم، إذ إن التعديل في الخريطة الأدبية يحدث ببطء، وغالباً ما تتّصف حدود العالم الأدبي بالثبات أو الجمود، بحيث يحتاج الكاتب في البلدان التي سُمّيت تابعة، لأن يكون موهوباً ومحظوظاً كي ينال الاعتراف.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون