جدران معولمة

07 يوليو 2022
غرافيتي على جدار الفصل العنصري في فلسطين (Getty)
+ الخط -

أتذكر الآن المرة الأولى التي فكَّرت فيها بـ السَّفر، أو بموضوعة الخروج. كان عُمري وقتها أربع أو خمس سنواتٍ. أُمي تطير من الفرح. خالي يعودُ من الإمارات زيارة إلى غزّة. قالوا لي بأنه سيأتي بالطائرة، وكانت الطائرة الوحيدة في مخيلتي هي الأباتشي. ذهبتُ مع عائلتي إلى الزَّنة ننتظر مجيء خالي. استغربتُ وقتها. كلهم كانوا ينظرون إلى الطّريق. أما أنا فكنت أنظر إلى السَّماء. أتخيل خالي يقود طيارة أباتشي ويهبط في فناء البيت. يصل بعد دقائق والسيَّارة تزفه بنعيقها. لم يأتِ مُحِّلقًا. على الأقل قد عاد. حقًّا عاد.

ترتبط مواسم عودة الأبناء إلى غزّة دائمًا بالفرحة العارمة. أُمهاتٍ يودّعن أبناءهن الذين خرجوا بحثًا عن دراسة أو عن "حياة سَعيدة". من ذكرياتي الأولى عن خالي حين عاد ليتزوج في سنين لاحقة أن خالاتي كنّ يتحدّثن فيما بينهن. "كوَّن نفسه". هنا الفكرة كانت في السفر قديما. أن تخرج لتكوّن نفسك، ثم تعود، ثم تخرج مرة أخرى. ولا نراك بعدها لسنين طويلة.

وأنا أشاهد المُسلسلات الأميركية، كان أكثر ما يدهشني لديهم سهولة اتخاذ قرار السَّفر. أنا أميركي الآن واسمي جون في نيويورك. قد أقرر في لحظة صحوي من النوم بأني سأذهب إلى بريطانيا. الخطّة؟ أحزم حقيبتي وأتوجه للمطار فحسب. لا حفلات. لا انتظار. لا وله جنوني. أمّا أنا الأساسي، أنس، والذي عاش طفولته في غزّة. كانت تُقام في حياته حفلات وداعٍ على الدّوام. وحفلات استقبال. لأن السفر ليس سهلًا، وليس هينًا، ومن يخرج قد لا يعود. ومن يعود، قد لا يخرج.

في مقابلة مع هاروكي موراكامي، قمت بترجمتها مؤخراً، يتحدث الكاتب الياباني عن إمكانية السَّفر اليوم مقارنة بالماضي، فيقول إن الجميع صار بإمكانهم الذّهاب للولايات المُتحدة اليوم. يتكلّم موراكامي هنا بمخيلة غربيةٍ تمامًا. هل فعلًا صار بإمكان الجميع؟ وهل يذهب الجميع إلى هناك بالسهولة نفسها؟ هل يستيقظ أنس في غزّة ويقرر أنه يريد الذهاب إلى أميركا ويسافر؟ أم أن عليه تقديم أوراق ثبوتية لها أول وليس لها آخر؟ هل عليه أن يقابل في السفارة الأميركية في القدس أم في الأردن أم في القاهرة؟ وكم شهر سينتظر؟ وكم سيدفع؟

يصف الكاتب عبد اللطيف إيغا (الأفريقي الأميركي صومالي الأصل) الأمر بأنه نظام فصل عنصري معولم. ترتفع الجدران في وجوهنا، وتقام الجسور للغرب.

أعيش أنا من يكتب، وأنت يا من تقرأ، بمخيلة "عولمة" كاذبة. عولمة يستفيد منها العالم الغربي ومن كل ميزاتها، ونحن نأخذ فتاتها ونقول: "ياه، العالم قرية صغيرة". لنأخذ موراكامي ونعطيه الجنسية الفلسطينية أو السورية أو العراقية، ولنر كيف سسيتحدث كاتبنا المُغربن عن "العالميّة"!


* كاتب من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون