ثُريا حدّاد.. كائنات خزفية تُذكّر بالحياة

16 يونيو 2021
من المعرض
+ الخط -

يأخذ فنّ السيراميك موقعاً خاصّاً بين الفنون التشكيلية والبلاستيكية. فمن ناحية، يواجه المشتغلون فيه مسألة التمييز بين عملهم باعتباره فنّاً، وبين المنتجات السيراميكية التي تُستخدَم لأغراض تجارية ومنزلية. هذه الحاجة إلى فصل العمل الفني عن الأداة أو عن الشيء لا تحضر في كثير من المجالات التشكيلية: فاللوحة، أو المنحوتة، تظهر فوراً كاشتغال جماليّ مستقلّ عن الاستخدامات العملية اليومية. أما المادة السيراميكية فيكاد لا يخلو بيتٌ منها، حيث تحضر فيه بوصفها عنصراً للاستخدام.

قد تبدو، هنا، العودة ضروريةً إلى التمييز الذي قام به الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر بين الشيء أو الأداة من ناحية، والفنّ من ناحية أُخرى. نُسمّي عملاً فنّياً، كما يقول هايدغر، أيّ شيءٍ يبدو في حضوره مكتفياً بذاته. أي أنّ العمل الفني، بخلاف الأغراض والأواني والأشياء، لا يُحيل بالضرورة إلى شيء خارجه، ولا يُشكِّل وسيلة لغاية تتجاوزه.

على أنّ هذا القول لا يُخرج فنّ السيراميك من إشكالية أُخرى تواجهه داخل الفضاء التشكيلي نفسه. هل السيراميكُ من الفنون البلاستيكية؟ أم أنه من الفنون التطبيقية؟ أو ربما التزيينية؟ هذه الأسئلة التصنيفية قد تصل، عند البعض، إلى حد التساؤل حول ما إذا كان الاشتغال في السيراميك ينتمي أساساً إلى الحقل الفني. أيّاً يكن، لا تأتي هذه الأسئلة من عدم؛ فوجودُها يُشير إلى مسألة الاعتراف التي ما يزال هذا الحقل في طور انتزاعها عربياً وحتى غربياً، مقارنةً بحقول تشكيلية أُخرى لم يعد ثمة نقاشٌ على انتمائها إلى الفن.

الفنانة اللبنانية ثُريا حدّاد (1962) من المشتغلين بشكل شبه حصريّ على السيراميك. خلال السنوات الماضية، كان يمكن لمتابعي الحِراك الفني، في بيروت وفي أماكن أُخرى من لبنان، مشاهدة أعمالها ضمن فعاليات مثل "معرض بيروت للتصميم" (2017)، أو في معارض جماعية، مثل "لُعبة الشكل" الذي أقيم عام 2015 في "تانيت غاليري" ببيروت، والذي قدّمت فيه أعمالاً أعطت فكرة عن موهبة تُظهرها تلك الطبقات المتتالية، والمتراكبة بتناغم، من الطين المعرّض لحرارة عالية، ضمن توزيعات من الألوان الخافتة.

أعمالٌ تختلف في تقنياتها لكن تحمل رؤية مفهومية واحدة

معرضُ حدّاد الجديد، المُقام حتّى الحادي والثلاثين من تمّوز/ يوليو المقبل في "غاليري صالح بركات" ببيروت، يُعطي فكرةً أوسع عن اشتغالات الفنانة، ليس فقط لأنه معرضها الفرديّ الأوّل، بل لأن ما تقدّمه فيه يُشكّل تُجاوزاً، في إحدى القراءات، لما عرفناه من أعمالها السابقة.

يضمّ المعرض، الذي يحمل عنوان "سراب: ذِكرى ذهنٍ يتفتّح"، سبعة عشر عملاً من الخزف الحجري أنجزتها الفنانة هذا العام، ووزّعتها ضمن ثلاث سلاسل اشتغلتها بتقنيّات ودرجات حرارة مختلفة. حيث نعثر، إلى جانب الأعمال المعرّضة لحرق تقليدي، على اشتغالات تنتمي إلى خزف الراكو، المعرّض لدرجة حرارةٍ أقلّ.

على أنّ هذا التنويع، الذي يشمل أيضاً أسطح الأعمال وملامسها، لا يُخرج مجمل الاشتغالات المقدَّمة من فهمٍ أو رؤية واحدة نكاد نعثر عليها في كلّ قطعة خزفية. فنحن في الأغلب أمام أشكال، أو ربما كائنات، تنهض من أرضية أو جذع إلى الأعلى، تتكاتف قرب بعضها أو تتراكب، وكأنّنا نشهد انبثاقٍ حزمٍ من الفِطر أو من كائنات نباتية تخرج للتوّ من الأرض. حتى إحدى الجدارية التي يضمّها المعرض، تبدو وكأنّها أثرُ ولادة أو انبثاقٍ لشكلٍ لا بدّ أنه عرف الحياة في لحظة ما. قراءةٌ "حيوية" يبرّر عنوان المعرض (ذهن، ذكرى) الذهابَ إليها.

تُظهر الفنانة حِرفيةً عالية في تطويع المادة، ولا سيّما في الأعمال التي تحتوي مجموعات من الأشكال المتجاورة والمتراكبة، مع ما تتطلّبه مجاورتها من اهتمامٍ بالانحناءات والتداخلات، وبالشكل النهائي الفردي والجماعي لكلّ عُنصرٍ فيها. كما تُظهر قدراً عالية من التمكّن في اشتغالها على الأسطحة وملامسها، والتي تُراوح بين طلاء أملس وآخر يحمل طبقات من اللون مجفّفة أو متروكة تجفّ وتنزّ كما تشاء، وبين أسطحٍ متشقّقة ومتفسّخة تحمل شعرية الإشنيّات وألوانها.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون