ثقافة لبنان في 2022: تقليل خسائر في إهاب "إنجازات"

28 ديسمبر 2022
من داخل "مسرح قصر البيكاديللي"، 2 ديسمبر/ كانون الأول 2022 (Getty)
+ الخط -

سادت تساؤلاتٌ وتخوّفات كبيرة مطلع هذا العام 2022، ضمن المشهد الثقافي اللبناني، من قبيل: إلى أي مصير ستؤول الأنشطة والفعاليات الثقافية بعد خيباتِ وخسائر العامَين الماضيَين؟ عامان لم يدعا فرصة لإظهار الإمكانيات الثقافية، بفعلِ ما حَفِلا به من عَصْف انفجارات أو إغلاقات نتيجة جائحة كورونا، في بلدٍ طالما تغنّى أهلُه بالثقافة، واعتبروها مفردة خاصة من قاموسهم اليومي. 

لحُسْن الحظّ لم يكن هذا العام بفداحة ما قبله -هذا لو تكلّمنا بلغة الانطباعات الأوّلية- بل إنّ شيئاً من تلك التخوّفات قد بدا مُحجَّماً وفي حدوده الدنيا. لكنْ، وبالمقابل، فإنّ الوضع الثقافي العام لم يصل إلى الحالة المثالية المرجوّة، لو قُورنَ بما كان عليه في سنوات سابقة؛ فالجميع كان يترقّب عودة ما لمجموعة من الأنشطة، وهذا ما تحقّق بعضُه بالفعل، كشكلٍ من أشكال "تقليل الخسائر"، أو كما يُقال: "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه". إلّا أنّ حالة "تقليل الخسائر" هذه يمكنُ قراءتُها بشكلٍ نسبي أيضاً؛ بين من يراها "إنجازاً" أو أفضل المُمْكن، وآخر أدركَ مُبكّراً أن الواقع مخيّبٌ للآمال، وأن الاستثمار بالثقافة، اليوم، ضربٌ من المستحيل أمام الانهيار الاقتصادي الآخذ بالاستفحال، وهنا؛ حزمَ فنّانون ومثقّفون كثُر أمتعتهم مغادرين "بلاد الأَرْز". 

عجزٌ حكومي لم يتوانَ عن نسب اجتهاد الآخرين لنفسه

بعد هذا، يصير التساؤل مشروعاً عمّن يحقُّ له تبنّي مقولة "تقليل الخسائر"، أو نسبها لنفسه؟ لأنّ الأمور تُدار في المؤسسات الحكومية العربية -كما نعلم- بـ"سُلطة المُونَة"، وفي أفضل الحالات تُسيِّرُها النوايا المُبيّتة والشعارات. بالتالي، إذا عملَ فريقٌ على إنجاز مكسبٍ ما، يُرجَّح في المقابل أن يخطف الثمار فريقٌ آخر أقلّ مشاركة ومسؤولية، أو من لا يحضر إلّا لالتقاط الصور. وهذا ما ينطبق على السيناريو اللبناني، بحكم أنّ "تقليل الخسائر"، جاء بجهود المُبادرات الفردية أو التعاون الأهلي، في ظلّ عجز حكومي واضح، ولكنّ هذا العجز "مائن" على الآخرين، ويمتلك جرأة التبجُّح ليقول "أنجزنا"، فما أسهل استلحاق "نا" الفاعلين بالأقوال.

وإذا كان لا بدّ أن نبدأ بالإشارة إلى أهم الأنشطة التي عادت بعد انقطاع وإغلاقات الجائحة، فهو "معرض بيروت للكتاب العربي والدولي"، الذي شهد انعقاد نسختين منه هذا العام، الأولى مصغّرة في مارس/ آذار، والثانية أوسع قليلاً في ديسمبر/ كانون الأول، ورغم أنّ فوارقَ كبيرة تكاد لا تُذكر بين النسختين، فإنّ الجامع بينهما هو إثباتُ انكماش سوق النشر على نفسها، وعجزها عن استيعاب مشاركات عربية وأجنبية بالمعنى الحقيقي والفعّال. بل إنّ الزائر لكلتا النسختين يُدرك حجم الخسائر المادية، انطلاقاً من قاعة "سي سايد" نفسها، الحاضن التاريخي للحَدَث، والتي تدمّرت بنسب كبيرة نتيجة انفجار المرفأ في 4 أغسطس/ آب 2020، لتبقى رمزية تعافيها من تعافي البلد برمّته، لكنّ هذا يحتاج إلى سنواتٍ وسنوات على ما يبدو.

تحوّلت معالم ثقافية إلى دكاكين لبيع الألبسة

ومن جملة معارض الكتُب، أيضاً، رُصِد هذا العام إطلاقُ النسخة الأولى من "بيروت كتب"، الفعالية التي أُقيمت في العاصمة أوّلاً، إلى جانب بلداتٍ ومدن أُخرى. وقد جاءت لتستعيد "وجه لبنان الفرنكوفوني"، حسبَ المُنظّمين، بعد أربع سنوات على آخر فعالية مشابهة. لكنّ هذا "الوجه الفرنكوفوني"، سرعان ما آثر التمرُّغ في وحل التطبيع الإسرائيلي، عبر دعوته أسماء كُتّابٍ معروفة صلاتُهم بِسَاسة الإجرام الإسرائيلي، أمثال الطاهر بنجلّون، الذي ألغى هو وآخرون فرنسيون معروفون بانحيازهم لـ"إسرائيل"، زيارتهم إلى العاصمة اللبنانية، نتيجة تصريحات من وزير الثقافة عن تطبيعية الفعالية. في حين كان أولى بهذه الفعالية أن تلتفت إلى أسماء فرنسية رصينة من عالم الكتابة والأدب، وتُعرَف بمناصرتها لقضايا عادلة، مثل صاحبة "نوبل" لهذا العام، آني إرنو (1942)، على سبيل المثال.

كذلك على المستوى السينمائي، عادت لتُعقد تظاهرة "أيام بيروت السينمائية"، بدورتها الحادية عشرة في يونيو / حزيران، ضمن بيروت ومُدنٍ لبنانية أُخرى، بعد انقطاع دام ثلاث سنوات. وشهدنا تعزيز دورِ مبادراتٍ تُقاطِعُ بين الفَهْم البيئي والسينمائي الفني، وإن كانت في أغلبها مبادرات لجمعيات غير حكومية، كما حدث مع النسخة الرابعة من "مهرجان ريف"، الذي أقيم في الأسبوع الأوّل من سبتمبر / أيلول، والذي لم يقتصر على المشاركات اللبنانية المحلّية، بل سجّل حضوراً لعددٍ من الدول الأجنبية.

لم يشهد القطاع المسرحي فعالية تؤسس لحدث فني مُعتبر

بالوصول إلى الحديث عن المسرح فلم يكن بالحيَوية نفسها، ولم تُكلّل "عودة" الأنشطة على هذا المستوى بحدثٍ مميّز، ما عدا أنّ بعض العروض التي توزّعت على مسارح "دوار الشمس"، و"المدينة"، و"المونو"، ظلّت في إطار الفردية. كما انتظر جمهور المسرح حتى الشهر الأخير من العام ليشهدَ فعالية دولية شاركت فيها 17 دولة، وأُقيمت في مدينة صور، بعنوان "مهرجان تيرو الفني الدولي"، ورغم الآمال التي عُقدت على تظاهرة شبابية كهذه رفعت شعار "الفن وسيلة احتجاج"، فإنها اقتصرت على عروض تجريبية، وافتقدت للتنوّع في النصوص. 

ونبقى مع المسرح، حيثُ أُعيد الحديث عن مشروع ترميم "مسرح قصر البيكاديللي" في بيروت، والذي تزيد مساحته على ألفي متر مربّع، وارتبط اسمُه بالزمن الذهبي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قبل أن يأتي عليه حريقٌ في عام 2000، ليغلق أبوابه بعدها إلى هذا اليوم، ويظلّ مصيره مجهولاً. حيثُ أشيع مؤخّراً أنّ مليونيراً يتولّى في السنوات الأخيرة إنتاج الأعمال التلفزيونية البوليسية التي تروّج لثقافة التشليح والعصابات، هو من ينوي -فجأة- تحريك ملفّ الترميم بالتنسيق مع وزارة الثقافة التي راقها عرضُ رجل الأعمال هذا، ومن يدري لعلّه يُصبح "وجهاً ثقافياً" بارزاً في الأيام المُقبلة، في استمرارية لتقليد "استثماري"، يتمثّل بالانتقال من عالم الأعمال إلى عالم الثقافة. 

أمّا المهرجانات الغنائية الصيفية، وعلى رأسها: "بعلبك" و"بيت الدين"، فإنّ النسخة التي قُدّمت منهما هذا العام، أقلّ ما يُقال عنها إنها مسكونة بالماضي. حيث انتظم "بعلبك"، بعد دورتين سابقتين كانتا أشبه بتقزيم رسمي للفنّ بكلّ معانيه. وأُشيع (على طريقة الصحافة اللبنانية التي تعشق تعظيم الأمور)، أنّ الروح قد عادت إلى "بيت الدين"، قبل أن يُكتفَى بنسخة محلّية مُصغّرة، بعد ثلاثة أعوام على آخر دورة دولية منه، في صيف 2019.

ولا يمكن إنهاء الحديث عن هذا العام، دون التطرّق إلى جملة الإغلاقات التي عصفت بالكثير من المكتبات والمشاريع الثقافية الصغيرة والمتوسطة، وكيف انقلبت معالم الشارع البيروتي الأشهر "الحمرا"، من مَعْلمٍ ثقافي يضمُّ مقاهي وأندية ثقافية، إلى مجرّد شارع لبيع الألبسة وأدوات التجميل. فمع تقهقر الطبقة الوسطى في البلد، استغنى الكثيرون عن صحبة الكتاب، وانكفأ مثقّفون عن التردّد على أمكنتهم التي كانوا يتواصلون فيها مع قرّائهم.

بعد كلّ ما سبق، وعلى مشارف عامٍ جديد، يبدو أنّ الزمن يستعيد دورتَه، ويُحيلنا إلى الأسئلة التي انطلقنا منها، إلى التخوّفات ذاتها، لا الأمنيات، وإلى التمعّن في المصير مرّة أخرى. فإلى جانب مقولة "تقليل الخسائر"، سُمعت مقولات فرعية من قبيل "الأزمة أصبحت وراءنا وقد تجاوزناها"، وعلى ما تُحيل إليه كلتا المقولتين من تعويمٍ أبله للاطمئنان، إلا أنّها تُثبت من جديد فهْماً بعيداً عن الواقعي والمرجوّ، وبهذا تُصبح الأعوام جديدُها وقديمها، مجرّد نسخ متراكمة لفشل مديد.
 

المساهمون