اشتكى محمد يوسف نجم، في الطبعة الرابعة من كتابه "فنّ المقالة"، مِن أنَّ كتابه هذا ظلَّ وحيداً في الثقافة العربية، قال: "وكم كنتُ أودّ أن أرى لزملائي الباحثين، في الجامعة وخارجها، دراسات تسند هذه الدراسة وتضيف عليها". صدر هذا الكتاب سنة 1955، وسوف تُعاد طباعته عشرات المرّات، في واحدة من الحالات النادرة في النشر العربي، ولكن لن يأتي أحدٌ على ذكر النوع في "مقالاتهم".
إحصائياً تُعتبر المقالة، بأنواعها، الأدبية والسياسية والاجتماعية، النوع الأكثر تداوُلاً بين الكتّاب العرب، بينما ترتقي مالياً إلى أن تكون النوع الذي يعيش مِن مردوده (أو "مكافأته" كما يريد أن يقول الكتّاب للتعظيم مِن شأن الكتابة) معظم (هل أقول كلّ؟) الكتّاب العرب اليوم، ذلك أنَّ الأجر المالي الذي يتقاضونه منه لا يمكن أن يقارَن بما تنتجه رواية أو مجموعة قصصية أو شعرية. ومع ذلك فإنّنا لا نجد اهتماماً نقدياً ذا طابع تحليلي، أو تنظيراً ذا طابع قواعدي لفن المقالة من باب النظرية والشغل على فن الكتابة. كما أنَّ هذا النوع من الكتابة لا يحظى بأي تقريظ أو مديح أو معالجة، كأنما هو مجرَّد لقيط أُجبر الجميع على التعاوُن معه، وكسب ودّه، دون أن يبادلوه أيَّ عاطفة.
والمقالة فنٌّ طارئ على الأدب العربي، مثل الرواية. والطريف في أمرها هو أنَّ النماذج الغربية التي يقول محمد يوسف نجم إنّها تُمثّل هذا الفن في أفضل أشكاله، لم تُترجَم إلى اللغة العربية (هذه واحدة من الألغاز غير المفهومة في حركة الترجمة إلى العربية). وإذا كان الفرنسي مونتين هو المؤسِّس، فإنَّ مؤلّفاته غير معروفة، بينما يتداول الكتّاب العرب اسمه في الترجمات أو في الإشارات إلى أعماله فقط، كما أنّنا لا نعرف شيئاً عن الكاتب الآخر فرنسيس باكون، الإنكليزي الذي ينافس مونتين على كرسي المقالة في ثقافة لغته، ويُحتَمل أن يكون كتّاب المقالات العرب في بداية القرن العشرين، مع الاتصال الكثيف للثقافة العربية بالثقافتين الفرنسية والإنكليزية، قد أخذوا هذا الفن من أصوله، أي أنهم قرأوا مونتين وباكون، بينما تدرَّب الجيل التالي، أو الأجيال التالية كلّها، على يد المؤسِّسِين الذين تأثّروا بشكل مباشر بفن المقالة الغربي.
مجبَرون على التعاون معها دون أن يبادلوها أيَّ عاطفة
وكثيرٌ من المؤلَّفات التي اشتهرت لكتّاب عرب معروفين جدّاً، هي مجموعة من المقالات، أي أنها ليست كُتُباً في موضوع محدَّد، خُذ "حديث الأربعاء" لطه حسين وهو في ثلاثة أجزاء، وخُذ معظم مؤلَّفات عباس العقّاد، وإبراهيم المازني، وزكي نجيب محمود، وبعضَ كتب فؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم... وهو أمر يثير شهية البحث عن أسباب عدم تفرُّغ أولئك الكتّاب للتأليف في مجالات الفكر التي يهتمّون بها، بدل الانصراف إلى المقالة، وفيما إذا كان ذلك من مظاهر انتشار الصحافة وحرية الرأي أم لا.
لن تجد إلّا القليل من الأعمال التي تبحث في موضوع واحد لدى معظم مفكِّري العرب في العقود السابقة. بحيث قد يخاطر المرء في مديح المقالة بالقول إنَّ جيلنا والأجيال التالية هم أبناء ثقافة المقالة، لا ثقافة الكتب والمؤلَّفات.
* روائي من سورية