في اللغة العربية كما في لغات أُخرى، استطاع مصطلح "نوستالجيا" ــ رغم عجمته ــ فرض نفسه ككلمة أساسية للتعبير عن إحساسٍ بالفقد وألمٍ نفسيّ مرتبطين تحديداً بالبُعد عن الأرض الأولى أو المكان الأوّل الذي عشنا فيه، وهو ما لا تستطيع كلمة "حنين" في العربية، أو ما يقابلها في لغات أُخرى، قوله تماماً.
ورغم قِدَم هذا الشعور، الذي نجد أمثلة عنه في كثير من الآداب القديمة، مثل الشعر العربي أو النصوص الإغريقية، إلّا أن الكلمة لم توُلَد إلّا في نهايات القرن الثامن عشر، على يد طبيب فرنسي شاب، هو يوهانس هوفر، ابتكرها ــ بعد طول محاولات ــ من كلمتين يونانيتين للتعبير عن حالة نفسية لاحظها لدى العديد من المرضى، والكلمتان هما نوستوس (nostos)، التي تعني حرفياً العودة إلى البيت أو الوطن، وآلغوس (algos)، التي تعني الألم، في تركيب يعني، إذا ما أردنا شرحه، "الألمُ الذي يتسبّب به الحنين إلى البيت أو الوطن".
قبل أيام، صدرت، لدى منشورات "سوي" في باريس، النسخة الفرنسية من كتاب الباحث البريطاني ـ الفرنسي توماس دودمان، "النوستالجيا: تاريخُ شعورٍ مميت"، وهو عملٌ يقدّم فيها نظرة تاريخية لهذا المفهوم الذي لم يكن، حين ولادته، يعني بالضرورة ذلك الإحساس الشعري، الروحاني، الذي قد يعنيه اليوم.
يُشير المؤلّف إلى أنّ المصطلح جاء في سياق طبّيّ ومعرفيّ كان يسعى المختصّون فيه من أطباء نفسيين إلى فهم العواطف السلبية، المؤلمة، وإيجاد حلول لها، وهو مسعىً يأتي في وقت شهدت أوروبا، خلال القرن السابع عشر والثامن عشر، العديد من الأعمال الفلسفية التي بحثت في العواطف، مثل "عواطف الروح" (1649) لرنيه ديكارت، والجزء الثاني من "أطروحة حول الطبيعة البشرية" لدايفد هيوم، الذي حمل عنوان "العواطف" (1739).
ويكشف المؤلّف عن أن النوستالجيا كان تُعتبَر مرضاً خطيراً حتى القرن التاسع عشر، حيث كان الأطباء والصحافيون والساسة يتحدّثون عن "وباء نوستالجيا" بين جنود حملات نابليون والجنود البريطانيين والفرنسيين في المستعمرات التي احتلّها، كما ينوّه بأن النوستالجيا تسبّبت، في بعض الفترات، بأعداد من الموتى يفوق ما تسبّبت به بعض المعارك.
ويضيف دودمان أن النوستالجيا ستعرف تغيّراً في القرن التاسع عشر، حيث ستخرج للمرّة الأولى من الإطار الطبّي لتُصبح ثيمةً يتناولها الشعراء والكتّاب الرومانسيون، للتعبير عن علاقتهم بالأرض التي ابتعدوا عنها فعلاً في أسفارهم، أو الأرض "الأولى" التي حلموا بها، والتي غالباً ما كانت أرضاً مشرقية، تقع في منطقتنا أو في اليونان.
ويشير المؤلّف إلى أن هذا التحوّل هو الذي سيفتح الباب على فهمنا المعاصر للنوستالجيا، التي لا نكتفي فقط بالنظر إليها كإحساس عادي و"كونيّ"، نعرفه جميعاً (نظرياً على الأقل)، بل إن بعض الدراسات العصبية تُشير اليوم إلى "فوائدها" النفسية والعقلية... وهو ما يكشف عن الانقلاب الذي عرفه المصطلح خلال قرنين من الزمن.