تلويحةٌ أخيرة بمنديل نورا

02 يونيو 2024
نورا كورتينياس خلال وقفة في "بلاسا دي مايو" ببوينس آيرس، 5 أيار/ مايو 2018 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نورا كورتينياس، أم أرجنتينية فقدت ابنها خلال الحكم العسكري (1976-1983)، تحولت إلى رمز للنضال من خلال ارتدائها منديلًا أبيض يحمل اسم ابنها وتاريخ اعتقاله، معبرةً عن قصتها المؤثرة ونضالها المستمر حتى وفاتها في مايو 2023.
- كل خميس، كانت تجتمع مع أمهات أخريات في "بلاسا دي مايو" مطالبة بالعدالة ومعرفة مصير الأبناء المفقودين، مما جعل هذه الاجتماعات رمزًا للمقاومة وحول نورا ورفيقاتها إلى أيقونات للأمل والعدالة.
- قبل أن تصبح رمزًا للنضال، عاشت نورا حياة عادية مع أبنائها، لكن اختفاء ابنها كارلوس دفعها للانخراط في حراكات حقوقية واسعة، متحديةً كل محاولات إسكات صوتها، وتحولت قصتها إلى جزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي والاجتماعي للأرجنتين.

يقول منديلها الصغير، الموضوع بقصد على رأسها بطريقة طفولية، إنّ ابنها مفقود. في المرّة الأُولى وضعت النساء على رؤوسهن "حفّاضات" قبل أن يُقرّرن الاستقرار على "المنديل" أو "الملابس البيضاء"، للإشارة إلى أبنائهن المفقودين خلال الحُكم العسكري للأرجنتين، الممتدّ ما بين عامي 1976 و1983.

كتبت نورا كورتينياس على منديلها: "كارلوس غوستافو كورتينياس، موقوف، معتقل، 15 إبريل 1977، الأرجنتين". وبقي المنديل والكتابة على حالهما حتى وفاتها في الثلاثين من أيار/ مايو الماضي عن 94 عاماً. وللمفارقة، فقد رحلت في الشهر الذي تحتفل فيه بعض الدول بعيد الأمّ، فيما تحتفل به نيكاراغوا في اليوم ذاته. وقد ارتبط هذا الشهر بنضالها المستمرّ منذ عقود في "بلاسا دي مايو"؛ الساحة الشهيرة في بوينس آيرس.

المفارقة الأكبر أنّها ماتت يوم خميس، وهو اليوم الذي كانت تجتمع فيه مع غيرها من النساء في الساحة، أسبوعياً، في موعد محدّد هو الثالثة والنصف عصراً، للمشاركة في مسيرات "أمّهات بلاسا دي مايو" منذ عام 1977، والمطالبة بمعرفة مصائر أبنائهنّ المفقودين قبل عودة الديمقراطية للبلاد عام 1983، ثمّ المطالبة بالقصاص ومحاسبة المسؤولين وضمان ألّا يتكرّر ما حدث مرّةً أُخرى؛ سواء في الأرجنتين أو خارجها، ليتحوّل نضالهن إلى رمز للكفاح بأبسط الأدوات، ويتحوّلن هنّ أنفسهنّ إلى أيقونات. 

في مشهد قريب جدّاً، يتحرّك شبان في "بلاسا دي مايو" نحو السيّدة نورا وقد طعنت في السن، يقبّلون يدها، يلتقطون معها بعض الصور التذكارية، وقد صارت أمّاً للجميع، وجدّةً مناضلة، وجزءاً من هوية بوينس آيرس وسعيها نحو العدالة. 

انخرطت في حراكات حقوقية عدّة لم تتوقّف عند مسألة المفقودين

في مشهد أبعد بكثير، نورا تُنجب ابنها البكر كارلوس عام 1952، ثم مارسيلو عام 1955. تمارس الأعمال اليومية في المنزل، فترى الطفلين فجأةً شابين، أحدهما، كارلوس غوستافو، يعمل في وزارة الاقتصاد وينتمي في توجّهه الفكري والسياسي إلى الحركة السياسية البيرونية.

الحادي عشر من أيار/ مايو هو يوم ميلاد كارلوس الذي ينادونه باسمه الثاني "غوستافو". وفي عيد ميلاده الثاني والعشرين، أي في عام 1974، يرفض الاحتفال بسبب اغتيال الأب كارلوس موخيكا، البيروني المعروف بدفاعه عن الفقراء. تطلب نورا من غوستافو أن يحذر أو يتوارى عن الأنظار، فيقول: أتريدين أن يذهب أطفال الأمّهات الأخريات، عوضاً عنّي؟

في مشهد متقدّم قليلاً، تحثّ آنّا، زوجة غوستافو وأمّ ابنه الوحيد، الخطى نحو بيت حماتها نورا، لتُخبرها أنّه اعتُقل. حدث ذلك في عام 1977.

في مشهد تالٍ، العابرون يطلقون على نساءٍ هنّ أمّهات وجدّات اجتمعن في ساحة المدينة، يبكين ويولولن لفقْد أبنائهن، تسمية "مجنونات بلاسا دي مايو".

المجنونة نفسها، نورا، طارت إلى مدينة أُخرى في العام التالي لاختفاء ابنها غوستافو، لتقفّي أثره حين ناداها قاضٍ للتعرّف إلى جثث ظهرت على الساحل. مدير زوجها في العمل قال له: لمَ لا تربطها بساق السرير، كي لا تمكث في الشارع؟ في مشهد رمزي، كُسِر السرير.

وفي مشهد لا يتوقّف، تطالب نورا بتحقيق العدالة لابنها ولجميع المفقودين، فتنخرط في حراكات حقوقية عدّة لا تتوقّف عند مسألة المفقودين، بل تتعدّاها إلى قضايا أُخرى تندرج تحت مطلب تحقيق العدالة.

المشهد الأخير، الجمعة 31 أيار/ مايو 2024، يوم وداعها، وداع أمّ من أمّهات الأرجنتينيّين، يومٌ حزين آخر يضاف إلى أيام "بلاسا دي مايو".


* صحافية ومترجمة أردنية فلسطينية مُقيمة في نيكاراغوا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون