لم يكن ورود رواية "تفصيل ثانوي" للفلسطينية عدنية شبلي، الصادرة عن "دار الآداب" اللبنانية، في اللائحة الطويلة لـ"جائزة البوكر الدولية" التي تمنحها "مؤسَّسة مان بوكر في لندن، هو الذي عرّضها لقراءة وافية فحسب، بل فعل ذلك وأكثر منه، حجْب الجائزة الألمانية، التي استحقّتها، عنها، كواحدة من عواقب العدوان الإسرائيلي على غزّة.
صدرت الرواية عام 2017. ومن العبث أن نبحث عن حرب غزّة الحالية فيها، بيد أنّنا نقرأها الآن، وهذه الحرب طاغية على عقولنا ونفوسنا، ثم إنّ مَن حجبوا الجائزة عنها أوجدوا صلةً ما، بينها وبين الحدث الفلسطيني، فلا بد أنّها، على نحو ما، تُحيلنا إليه.
لا تخيّبنا الرواية، رغم البون الزمني الذي يفصلها عن الحرب، وانقضاء ستّ سنوات على صدورها؛ إذ إنّها، بدون أيّ دعاوى سياسية وأيّ نفس تحريضي أو تعبوي، تصدر عن الموضوع الفلسطيني، وتستنبشه منذ النكبة حتى وقت قريب. إنّها، بدون أيّ لفظية سياسية، وأيّ محاكمة من هذا القبيل، وبواقعية صارمة وبناء من تفاصيل يزدوج فيها الأساسي بالثانوي، والعابر بالعضوي، تملك القدرة على عرض المسألة، بل والمسائل، من وراء الخطاب السياسي، وبكلام قوامه الوقائع والجزئيات تخرج الدعوى من صغائر كلّ يوم، في الوقت الذي تحافظ فيه على عناوينها وأركانها.
حجْب الجائزة عنها أكد الصلة بينها وبين الراهن الفلسطيني
هنا تبدو القضية الفلسطينية حديثَ كلّ ساعة، وكلّ حركة، وتنبني هكذا من الحواشي والهوامش، بدون أن تفقد سياقها والحقيقة المضمرة فيها. يمكن القول لذلك إنّ "تفصيل ثانوي"، في الوقت الذي هي فيه أرشيف وتاريخ، تستوي كرواية خالصة. مع ذلك فإنّ الرواية لا تُخفي انتماءها وانحيازها، بدون أن يكون الاثنان خطابة أو تمويهاً أو بحت تبرير.
نقرأ الرواية وحوادث الحرب على غزّة لا تزال تنهمر علينا. ليس علينا أن ننسى ذلك، أو نتجاهله، فالأغلب أنّ هذه الحرب تُضاف، على نحو ما، إلى قراءتنا، والأغلب أنّها تبدو في أفق الرواية وأمامها. نحن في فلسطين، والوقائع منذ 1949 لا تزال في الرواية ذاتها. لذا نسمع صوت الحرب القادمة، بل الحروب القادمة في ما بعد النص.
لكن، وللعجب، فإن فيها عبارات نكاد نسمعها في الحرب الحالية. يفاجئنا مثلاً أن نقرأ ما يبدو ذكراً للحرب، بل وتسمية لغزّة كمسرح لها: "أصيخ بسمعي إلى أصوات القذائف، المكان الذي يجري قصفه، إنه بعيد، خلف الجدار، في غزّة أو ربما في رفح". سطر كهذا لن يباغتنا، فنحن كمن كان يتوقّعه. إنه يبدو تتمّة واستطراداً، فإن كنّا نتكلم عن الحقيقة الفلسطينية، فإن حرب غزّة لا تبدو مفاجئة فيها.
رواية عدنية من قسمين. القسم الأوّل هو البدايات، عام 1949، أي بعد سنة على إنشاء "إسرائيل"، والقسم الثاني بعد ربع قرن على ذلك. القسمان متباعدان، لكنهما مع ذلك متقاربان، بل هما في موقع واحد، أو أنّهما إعادتان للشيء نفسه.
في القسم الأوّل، نحن في "النقب" التي، فيما نعلم، ليست جزءاً أساسياً في الملحمة الفلسطينية. إنّها كما عنوان الرواية "تفصيلٌ ثانوي". نحن في الصحراء وفي ثكنة للجيش الإسرائيلي، مكان للتنقّل والتجوال فحسب، والقائد العسكري، الذي هو شخصية القسم، لا يفتأ يواصل ذلك، حتى بعد أن لدغته حشرة غير مسمّاة، وكونها غير مسمّاة أمر لافت، فكأن اللدغة شيء آخر غيرها كلسعة، وربما في السياق نفسه تتحوّل إلى ورم وإلى عفن وقيح.
في الرواية عبارات نكاد نسمعها في العدوان الحالي
على طول القسم نسمع نباح كلب، ونلتقي بفتاة نشمّ، بين السطور رائحتها النتنة. يصحبها القائد ويستقبلها في سقيفته وينام معها، في مقطع لا يفصح تماماً عن ذلك. المضاجعة تتمّ، إن تمّت، بدون تسمية، كأنّ في هذا الإغفال عنواناً للصلة بين الإسرائيلي وعرب فلسطين. إنها اغتصاب غير مسمّى، مضاجعة بلا عنوان.
في القسم الثاني، نحن أمام فلسطينية باحثة، وقد تناهى إليها خبر هذا الاغتصاب، وتودّ تحرّيه. الأمر الذي يدعوها إلى أن تذهب، بعد أن يكلّفها الانتقال المشروط لفتاة عربية في أرض فلسطين، إلى درجة من التحايل والتزوير. الباحثة الفلسطينية هي هُنا صدى بعيد للفتاة البدوية المغتصبة في القسم الأوّل، بل نحن نشعر بأنّها، بدون إيعاز، على نحو ما، هي نفسها. نسمع أيضاً في القسم الثاني، وباستمرار، نباح الكلب، الذي يتراءى لنا كأنّه انتقل إليه من القسم الأوّل.
ذريعة الباحثة لتحرّي ما جرى منذ ربع قرن من جريمة، هي أنّ الحادثة التي وقعت ذلك الحين، وقعت في يوم ميلادها هي. ذلك ذريعة للجمع بين بدايات "إسرائيل" وأواسطها، بين الجريمة الأُولى، والجريمة الباقية المستمرّة، بين الاغتصاب الأوّل واستمراره في الحاضر. لن يكون تاريخ الجريمة الأُولى المستعاد سوى استمراره في ما تلاه ويتلوه من زمن. لذا حين نقرأ عبارة الرواية عن قصف غزّة لا نستغرب، فالحادثة نفسها لا تزال تتتابع وتُستعاد، وعرب فلسطين يتحوّلون، أكثر فأكثر، إلى تفصيل ثانوي.
في القسمين، نحن دائماً في سيارة. فلسطين فيهما هي دائماً سفر بلا نهاية، سفر وطريق فقط. إنها كما صارت إليه، في الحالين، بحث فحسب، مكان بلا حدود وبلا نهاية. ثم هناك لعبة الخرائط، خارطة ما قبل 1948 والخارطة الإسرائيلية، الثانية محو للأُولى. في الأُولى قرى وفي الثانية مستوطنات، لكن أين يعيش الفلسطيني، وليس له سوى الخارطة، وسوى السفر الذي هو هروب فقط؟ نهرب من فلسطين وإلى فلسطين، ونبقى هكذا أكثر فأكثر، في "تفصيل ثانوي".
* شاعر وروائي من لبنان