مقارنةً بعام 2020 الذي شهدت فيه تركيا ركوداً ثقافياً كبيراً تسبّبت به جائحة كورونا وأثّر سلباً على جميع الأنشطة الثقافية والفعاليات الفنية، فإنّ عام 2021 شهد انفراجة كبيرة في الحياة الثقافية بالبلد، وخصوصاً في النصف الثاني منه. فقد عاد أغلب الفعاليات الثقافية والفنية تدريجياً، ولكنْ مع تخفيض عدد الحضور. واعتباراً من اليوم الأوّل لافتتاح تلك الفعاليات، بدأ الأتراك يملأون صالات الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية وقاعات السينما ومعارض الكتاب. ورغم أنّ أغلب الأنشطة كانت مستمرّة خلال فترات الحظر، لكنْ عبر شبكة الإنترنت، فإنّ حضور الفعاليات بهذه الطريقة ليس أمراً معتاداً في تركيا.
ورغم عودة الحياة الفنية والثقافية في تركيا تدريجياً خلال 2021، فإنّ قطاعات كثيرة قد تضرّرت أيضاً بسبب فترة الإغلاق التي استمرّت حوالي 18 شهراً. ووفقاً للإحصاءات، فقد وصلت خسارات قطاع السينما في تركيا إلى 50%، إذ ظلّت دور الفنّ السابع مغلقة حتى الأول من تمّوز/ يوليو الماضي. وإلى جانب ذلك، رشّحت تركيا فيلم "الالتزام" للمخرج سميح كابلان أوغلو لتمثيلها في جوائز "أوسكار".
وكان الحدث الأهمّ في مجال السينما، العام الماضي، "مهرجان السينما المتجوّل" الذي تنظّمه "جمعية أنقرة السينمائية"، برعاية وزارة الثقافة والسياحة. وهو من أكثر المهرجانات التي تحظى باحتفاء شعبي كبير في تركيا كلّ عام. وقد أُقيمت الدورة السادسة والعشرون من هذا المهرجان في أغلب المدن التركية. ويُظهر لنا هذا المهرجان المتجوّل، من خلال انتظار الكثيرين له كلّ عام، أن الفنّ لا ينبغي أن يقتصر على المدن الكبرى فقط، لأن أغلب الفعاليات الثقافية والفنية تُقام في المدن الكبرى فقط، ولا يستطيع أهالي الأناضول أن يشاركوا في حضورها.
ومن أبرز ما شهدت تركيا أيضاً في 2021 افتتاح الأماكن الثقافية والفنية المختلفة، ولعلّ أهمّها افتتاح "مركز أتاتورك الثقافي" في ميدان تقسيم المعروف بإسطنبول. وكان موضوع افتتاح هذا المركز أحد أبرز العناوين في الصحافة التركية خلال العام الماضي، إذ أثار نقاشات عديدة. فقد تمّ التخطيط لبنائه منذ الفترة الأولى للجمهورية التركية، واستغرق بناؤه عدّة سنوات بسبب نقص الميزانية، ولم يتم افتتاحه إلّا عام 1969، وقد أُغلق لأكثر من مرّة، آخرها كان عام 2008 ولمدّة عشر سنوات، حتّى قررت الحكومة هدمه وبناء مركز جديد. وشهدت الأوساط الثقافية احتجاجات كبيرة ضدّ هذا القرار نظراً لتاريخية المكان، إلّا أنه هُدم أخيراً وتمّ افتتاحه من جديد في 2021.
كتبٌ عديدة تُرجمت من العربية إلى التركية وبالعكس
وقد استضاف المركز العديد من الحفلات والمهرجانات والفعاليات الثقافية، أبرزها "مهرجان إسطنبول للموسيقى الشعبية"، الذي شهد حضوراً كبيراً، كما استضاف أيضاً "مهرجان إسطنبول الدولي للشعر" في دورته الثالثة عشرة، الذي يديره الشاعر التركي عدنان أوزار. وشارك في المهرجان ــ الذي استمرّ لستّة أيام ــ شعراءٌ من تركيّا وفلسطين مصر والعراق وأذربيجان وجورجيا ومقدونيا، وجمعتهم أمسية خاصة تحت عنوان "أُخوّةُ العود" مع عازف العود بيلين إشكتاش في كناية عن تمازج الإرثين العربي والتركي.
بالإضافة إلى ذلك، أُقيمت عدّة مهرجانات أدبية أخرى في مدن تركية مختلفة، مثل "مهرجان إزمير الأدبي"، الذي تنظّمه بلدية إزمير. وتمّ اختيار "ثقافة المتوسّط" عنواناً للدورة الخامسة منه، بمشاركة تركية وعربية، ومن أبرز الأسماء العربية المشاركة: الروائيّتان اللبنانية هدى بركات، والمصرية سلوى بكر. كما احتضنت أسطنبول "مهرجان الأسبوع الأسود للرواية البوليسية، وقد شارك في دورته السابعة الروائي أحمد أوميت والشاعر والناقد متين جلال، وشهد المهرجان العديد من الندوات حول الرواية البوليسية وتاريخها وراهنها في تركيا اليوم.
وإلى جانب المهرجانات الأدبية، أُقيمت مهرجانات موسيقية عديدة في تركيا خلال العام الماضي، أهمّها "مهرجان إسطنبول الدولي للموسيقى" في دورته التاسعة والأربعين. ويعدّ هذا الحدث ــ الذي تنظمه "مؤسّسة إسطنبول للثقافة والفنون" ــ أبرز المهرجانات التي تقدّم الموسيقى الكلاسيكية في تركيا، إلى جانب موسيقى الجاز والبوب. كما أُقيم في أنطاليا "مهرجان أسبيندوس" للأوبرا ورقص الباليه، برعاية وزارة الثقافة والسياحة. وفي ما يتعلّق بالمسرح، فقد شهدت تركيا، في العام الماضي، 25 عرضاً في "مهرجان إسطنبول المسرحي" (الدورة الخامسة والعشرون). كما شهد "مهرجان قرطاج الدولي للمسرح"، في نسخته الأخيرة، مشاركةً تركية، إذ قدّم فريق "المديرية العامة للمسارح الحكومية" في أنقرة مسرحيةً بعنوان "مكتبة أبدية" لصباح الدين قدرت أكسال ومن إخراج مصطفى كورت.
كذاك شهد البلد إقامة العديد من المعارض الفنية في 2021، من بينها، ومن أكثرها إثارةً للجدل، معرض الفنان الكردي أحمد جونيشتيكين بعنوان "غرفة الذاكرة"، الذي تناولت أعماله مسألة قمع الأكراد في تركيا. وكان من المفترض أن يستمرّ المعرض ــ الذي افتُتح في مدينتي إسطنبول وديار بكر في السادس عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر ــ حتى نهاية كانون الأوّل/ ديسمبر، إلّا أنه أُغلق قبل الموعد المحدد بأسبوعين بطلب من وزارة الثقافة والسياحة. ومن المَعارض التي جذبت الانتباه أيضاً معرض "العالم الاستثنائي للأمير: عبد المجيد أفندي"، وقد ضمّ لوحاتٍ ووثائقَ حول عبد المجيد أفندي، آخر خليفة عثماني.
أمّا على مستوى الكتاب، فقد شهدت معارضه إقبالاً كبيراً في 2021، خصوصاً بعد اقتصارها على نسخة إلكترونية في 2020. فقد زار "معرض أنطاليا للكتاب" أكثر من نصف مليون شخص خلال عشرة أيام. كما أُقيمت عدّة معارض صغيرة أخرى في مدن تركية مختلفة. وقد شهدت إسطنبول أيضاً عودة لـ"معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي" في دورته السادسة بعد توقّف عامين بسبب جائحة كورونا، فقد شهد مشاركةً أكبر لدور النشر عن دوراته السابقة. وجدير بالذكر أن مدينة غازي عنتاب قد شهدت، العام الماضي، الدورة الأولى من "معرض الكتاب العربي"، التي جاءت تحت شعار "الكتاب وطن"، بمشاركة دور نشر عربية ناشئة في تركيا.
شهدت معارض الكتب حضوراً كبيراً خلال العام الماضي
وربّما يكون قطاعُ النشر القطاعَ الذي شهد الخسارة الكبرى في الحقل الثقافي في 2021، بسبب انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار، إذ أعلنت دور نشر كبرى تسريح عدد كبير من عمّالها وتوقّعَ أصحابها زيادة كبيرة في أسعار الكتب خلال المرحلة المقبلة. وقد تسبّبت هذه الأزمة في إغلاق بعض دور النشر الصغيرة أو إعلان بعضها عن التوقّف لفترة حتى الانتهاء من الأزمة.
ومن الكتب التي تصدّرت قائمة الأكثر مبيعاً في تركيا السنةَ الماضية كتاب المؤرخ إلبير أورتايلي "الحقائق التاريخية القريبة"، ورواية زولفو ليفانلي "الصيّاد وابنه"، ورواية "ليالي الوباء" لأورهان باموق، الذي تعرض بسبّبها للمحاكمة بتهمة استخدام إحدى شخصيات الرواية لإهانة مصطفى كمال أتاتورك.
وفي حقل الترجمة بين العربية والتركية، فقد صدرت ترجمتان تركيّتان لكتاب "حي بن يقظان" لابن طفيل، الأولى بتوقيع المترجم والأكاديمي التركي محمد حقّي صوتشين عن دار "كابي"، والثانية عن دار "إيش بنك" بتوقيع أونور أوزاتاغ. كما صدرت رواية "تفصيل ثانوي" للفلسطينية عدنية شبلي عن دار "جان" بترجمة صوتشين أيضاً، ورواية "حارث المياه" لهدى بركات بترجمة مصطفى إسماعيل دونميز. على الطرف الآخر، شهد العام الماضي صدور بعض الترجمات عن التركية، كرواية "مملكة ليس لها وجود" للروائي أحمد أوميت بترجمة عمير الأحمر عن دار "كلمات"، ورواية "أطلس القارات الضبابية" لإحسان أوقطاي أنار، بترجمة جهاد الأماسي عن دار "صوفيا"، وكتاب "سيرة ومسيرة" لنجم الدين أربكان بترجمة محمد صديق يلدريم، ورواية "أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة" لناهد سري أوريك عن "الدار الأهلية" بترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، كما صدرت للمترجمَيْن أيضاً ترجمةُ رواية "جثّة تضع حذاء كرة القدم" لجليل أوقار عن دار "ثقافات".
وأخيراً، فقد صادف العام الماضي مرور الذكرى السبعمائة لوفاة الشاعر والمتصوّف التركي الشهير يونس إمره، وتمّ إعلان 2021 "عامَ يونس إمره واللغة التركية"، فقد أُقيمت مراسم إحياء ذكراه في العديد من المدن التركية، كما أُقيمت العديد من الندوات للتعريف بحياته وأشعاره داخل تركيا وخارجها من خلال فروع "معهد يونس إمره" المنتشرة في بلدان كثيرة. وقام "معهد يونس إمره" أيضاً بتكليف المترجم والأكاديمي محمد حقّي صوتشين بترجمة مختارات، ستصدر قريباً، من أشعار يونس إمره تتضمّن نصوصاً من ديوانه ومن "الرسالة النُّصحية".
جديرٌ بالذكر أنّ تركيا فقدت، العام الماضي، أحد أبرز شعرائها المعاصرين، الشاعر سيزاي كاراكوتش، عن عمر ناهز 88 عاماً. وقد عُرف صاحب "أربعون ساعة مع الخضر" بتأسيسه خطّاً جديداً في الشعر الصوفي، كما عُرف بتضامنه مع العديد من قضايا التحرّر والاستقلال، خصوصاً في قصائده حول نضال الجزائر.