على الرغم من الركود الذي تسبّب فيه فيروس كورونا في المشهد الثقافي التركي خلال عام 2020، إلا أن الحجر الصحي كان سبباً في ازدياد معدّل القراءة في تركيا خلال الموجة الأولى والثانية. وليس غريباً بالتأكيد أن تأتي رواية "الطاعون" لألبير كامو على رأس قائمة الكتب الأكثر قراءة في البلاد هذا العام، تليها رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو، بينما شغلت روايات الكاتبة التركية والطبيبة النفسية جوليسران بودايجي أوغلو المرتبة الثالثة في أكثر من إحصائية.
وكانت قلّة الفعاليات الثقافية التي أُجريت هذا العام بعد تأجيل الكثير منها سبباً في العمل على تطوير آليات العرض افتراضيّاً لتكون أشبه بالمشاركة في الواقع. وقد استخدمت أغلب الغاليريهات التقنيات الثلاثية الأبعاد، وفي هذا السياق أيضاً، أطلقت وزارة الثقافة والسياحة التركية موقعاً إلكترونياً لزيارة المتاحف التركية افتراضياً بالتقنية نفسها، وبحسب مدير متحف ترويا في ولاية تشاناك كالي، فإن عدد زائري المتحف افتراضياً قد تجاوز المليون خلال عام 2020.
وخلال هذا العام، أُقيمت أغلب المهرجانات الأدبية افتراضياً أيضاً (بعد إلغاء وتأجيل الكثير منها) عبر تطبيق "زووم"، مثل مهرجان "الأسبوع الأسود" الذي يُعقد في إسطنبول كلّ عام، وهو مهرجان دولي للأدب البوليسي، و"مهرجان إسطنبول الأدبي الدولي". كما أُقيمت مهرجانات سنوية مهمّة على التطبيق نفسه، مثل "مهرجان إسطنبول السينمائي" و"إسطنبول للمسرح"، و"إسطنبول للموسيقى".
مثّلت ترجمة المعلقات السبع حدثاً ثقافياً هذا العام
أما أبرز الكتب التركية التي صدرت هذا العام، وفق القائمة التي نشرتها "صحيفة حريات" التركية وأعدّتها نخبة من الكتّاب البارزين، وضمّت خمسين عنواناً، فقد جاءت رواية "عثمان" للكاتبة أيفر تونتش على رأس هذه القائمة، يليها كتاب "حَمَام نامه" لمرادهان مونجان، والاختيار الثالث كان لكتاب "المُعَلَّقَات السَّبْع" بترجمة محمد حقي صوتشين، يليه رواية "بيت" لنيرمين يلدريم، وكانت أغلب كتب القائمة من نصيب الأدب المترجم، والغربي تحديداً.وخارج هذه القائمة، يمكن الإشارة إلى أعمال أدبية بارزة مثل رواية "قديماً كان المستقبل جميلاً" للشاعر عدنان أوزار، ورواية "عشق وعصيان" للروائي نديم غورسيل.
وجدير بالذكر أن المسارح ودور السينما تمّ إغلاقها منذ موجة كورونا الأولى. أما الأعمال الدرامية التركية، فقد حظي مسلسل "عمارة الأبرياء" للكاتبة التركية والطبيبة النفسية جوليسران بودايجي أوغلو بأعلى نسب مشاهدة هذا العام، حسب بعض الإحصائيات. كما تحظى روايات بودايجي أوغلو بإقبال القرّاء أيضاً، فهي من أكثر الروايات مبيعاً هذا العام. وقد تحوّلت بعض روايات بودايجي أوغلو إلى مسلسلات من قبل وحظيت بنسب مشاهدة مرتفعة، مثل مسلسل "الغرفة الحمراء" و"المنزل الذي ولدتَ فيه هو قدرك"، وتتميز أعمالها بطرح قضايا نفسية عميقة.
ولعل أبرز الأحداث الثقافية التركية لهذا العام، هو استرجاع تركيا لتمثال "الإلهة كوبيلي" الذي يقدّر عمره بـ 1700 عام بعد خمسة عقود على تهريبه إلى "إسرائيل" ومنها إلى الولايات المتحدة. وقد بدأت وزارة الثقافة والسياحة التركية بالتعاون مع القنصلية التركية بنيويورك في الإجراءات القانونية لاستعادة التمثال منذ عام 2016، وطالبت السلطات الأميركية بإيقاف عملية بيعه في مزاد علني، وعاد أخيراً إلى تركيا الشهر الماضي في "متحف أفيون قره حصار". و"كوبيلي" هي إلهة الجبال والطبيعة والخصوبة عند شعوب الأناضول قديماً، وتلاشت عبادتها بعد ظهور المسيحية.
وفي هذا السياق أيضاً، اشترت بلدية إسطنبول لوحة للسلطان محمد الفاتح تمّ الحصول عليها من ورشة الرسام الإيطالي جنتيلي بيليني (1429-1507). وأوضحت البلدية أنها اشترت اللوحة التي رُسمت من قبل بيليني نفسه أو أحد تلامذته عام 1480 في مزاد علني بالعاصمة البريطانية لندن، بقيمة 770 ألف جنيه استرليني (قرابة 948 ألف دولار) في شهر حزيران/ يونيو الماضي. وترجع أهمية اللوحة إلى أنها واحدة من ثلاث لوحات أصلية رُسمت للسلطان محمد الفاتح.
من أبرز الجوائز التركية الرسمية ما يعرف بـ"جوائز الرئاسة"، وقد مُنحت هذا العام في الأدب للشاعر إبراهيم تنكجي، وفي مجال السينما حصل عليها المخرج درويش زعيم، وحصل عليها في مجال الموسيقى أوزدمير أردوغان، وفي حقل العلوم الاجتماعية إسماعيل كارا، وفي التاريخ الثقافي سعد الدين أوكتان. كما ذهبت جائزة الوفاء هذا العام للخطاط نجم الدين أوقياي (1883 – 1976).
شهد العام غياب أسماء بارزة كالكاتبة عدالت أغا أوغلو
وقد أحدث قرار إلغاء تحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف، وإعادة تقديمه كجامع في خدمة الشعب انقساماً حادّاً بين المثقفين الأتراك هذا العام. حيث ربط بعض المثقفين، مثل أورهان باموق وغيره، هذا القرار بمحاولات النظام التركي "الانقلاب على هوية تركيا العلمانية"، واعتبر المؤرخ البارز إلبير أورتايلي هذا القرار نوعاً من "البروباغندا" لأن آيا صوفيا يتضمن قسماً للصلاة بالفعل. واعتبر مثقفون آخرون أن هذا القرار كان حلماً لدى الأتراك منذ الثلاثينيات، وحاولت بعض الآراء طرح أفكار جديدة حول الموضوع، كأن يظل آيا صوفيا متحفاً، ويُفتح للعبادة يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحيين.
كما شهد هذا العام في تركيا غياب بعض الأسماء البارزة، مثل الروائية والمسرحية عدالت أغا أوغلو التي ولدت عام 1929، وهي أبرز كتّاب جيل الجمهورية ومن روّاد الواقعية الاجتماعية في الأدب التركي الحديث، وقد ترجم لها الأردني صفوان الشلبي أربع مسرحيات: "بينغو"، و"الشرانق"، و"موت بطل"، و"الخروج". وشهد هذا العام أيضاً رحيل عازف البيانو والملحن المعروف تيمور سلجوق عن 74 عاماً، وهو ابن الموسيقي منير نور الدين سلجوق أحد أبرز ملحني الموسيقى التركية الكلاسيكية، والشقيق الأكبر لعازف الجاز سليم سلجوق. وقد أسّس تيمور أوركسترا إسطنبول لموسيقى الحجرة ومركز الموسيقى المعاصرة، بالإضافة إلى تأليفه للعديد من المقطوعات الموسيقية وموسيقى عدد كبير من الأفلام والمسرحيات. كما رحل أيضاً الفنان عارف دويجو تانسي عن 62 عاماً، وهو أحد أبرز فناني تحريك دمى الظل، ويُعرف في تركيا بـ"آخر أسطوات" هذا الفن في تركيا.
وقد انتهى عام 2020 في الأوساط الثقافية التركية بحملة نسائية على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، تتهم بعض الكُتّاب بالتحرش، على رأسهم الروائي المعروف حسن علي طوبتاش. وشاركت بعض السيدات تجاربهنّ السيئة مع الكاتب، ولم ينكر الكاتب التهم الموجّهة إليه. وقد أدّى ذلك إلى إعلان دار نشر "إفيرست" التي سبق لها أن أصدرت أعمالاً لطوبتاش عن إيقاف كلّ العقود المبرمة بينهما متعهدة بعدم نشر أعماله مرة أخرى. كما قام منظّمو "جائزة مرسين الأدبية" بسحب جائزة هذا العام التي كان من المعلن منحها لطوبتاش. وقد أعلن المخرج علي أيدن عن وقف تصوير فيلمه المأخوذ عن رواية "حتى الطيور تذهب إلى عزائه" لطوبتاش.
وقد فتحت هذه الاتهامات الموجهة إلى طوبتاش الباب للكشف عن أسماء كُتّاب آخرين متهمين بالتحرش أيضاً. وعلى إثر هذه الحملة أقدم الكاتب والناشر التركي إبراهيم تشولاك على الانتحار بعد ورود اسمه ضمن قائمة المتهمين بالتحرش. وقد تسبّب انتحار تشولاك في حدوث انقسام بين المثقفين الأتراك، بعضهم يؤيد الحملة بشكل كامل، والبعض الآخر عبّروا عن قلقهم من تحوّل الأمر من حق النساء في فضح المتحرّشين إلى مجرّد افتراءات كيدية. وفي ما يخص الثقافة العربية في تركيا، فلم يحظ الحدث الأبرز كل عام، وهو "معرض إسطنبول للكتاب العربي"، بنفس الاهتمام هذا العام بسبب إقامته افتراضياً أيضاً بسبب كورونا. وقد شاركت العديد من دور النشر العربية والتركية عبر منصّة افتراضية، ومن خلال البثّ المباشر خصص المعرض بثاً لكل دار للتعريف بأبرز إصداراتها. وعلى هامش المعرض أُقيم برنامج ثقافي تضمّن لقاءات افتراضية مع كُتّاب عرب وأتراك، ولقاءات مع مترجمين أكاديميين لدراسة حركة تطوّر الترجمة بين العربية والتركية.