حضر اسم نجيب محفوظ هذا العام بشكل خاص، ليس فقط ضمن تقاليد إحياء ذكرى ميلاده (التي مرّت هذا الشهر) ورحيله، بل أوسع من ذلك، حيث صعد للعلن سجالٌ حول حقوق نشر أعماله، وها إن العام ينتهي مع جدل جديد يتعلّق بتسمية لجنة لمراجعة أعماله.
فأمّا حقوق النشر، فقد طُوي فصل النزاع بين ورثة صاحب "ملحمة الحرافيش" من جهة، و"دار الشروق" التي امتلكت حقوق طبع أعماله لأكثر من عقدين، و"منشورات الجامعة الأميركية" صاحبة حقوق نشر أعماله المترجمة، من جهة أخرى. وآل الأمر بداية الشهر الجاري إلى منشورات "ديوان" التي تنافست مع دور نشر عربية على حقوق مؤلّفات نجيب محفوظ لمدة 15 عاماً، ورقياً وصوتياً، فيما ذهبت حقوق النشر الإلكتروني قبل ذلك إلى "مؤسّسة هنداوي".
مع طيّ هذه الملفات، انفتحت جولة جديدة من الجدل مع إعلان "ديوان" أن طبعاتها لأعمال نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) ستصدر "بعد مراجعة دقيقة" وتشكيل لجنةٍ بتنا اليوم نعرف أعضاءها: محمد بدوي، وحسين حمّودة، ومحمد شعير، ومصطفى بيّومي، وأحمد شافعي، وأحمد القرملاوي.
كانت مفردة "مراجعة" كافية لإسالة الكثير من الحبر، ولم يكن توضيح دار النشر كافياً حين أُكِّد أن الهدف من المراجعة "الوصول إلى الصيغة النهائية الخالية من أيّة محذوفات لأسباب رقابية أو لأسباب أخرى أو أخطاء مطبعية"، مع التأكيد أنه سيجري اعتماد مخطوطات الكاتب المصري كقرائن.
هناك بيئة ثقافية يسهل أن تزدهر فيها الهواجس، بداعٍ وبغير داعٍ
توضيحٌ لم يطفئ جذوة الهواجس المتعلّقة بالوصاية على تركة نجيب محفوظ الأدبية. وفي الحقيقة، هناك بيئة ثقافية يسهل أن تزدهر فيها الهواجس، بداعٍ وبغير داعٍ. هناك تُهَم جاهزة، مثل الرقابة الأخلاقية على النصوص وتمرير رسائل عبر التعليق عليها، كذلك أثيرت إمكانية إصدار طبعات خاصّة تلبيةً لرقابة بعض البلدان، وهي مسألة تُثار من منطلق أن طبعتي "دار الآداب" اللبنانية، و"دار الشروق" المصرية مختلفتان في كثير من مواضع رواية "أولاد حارتنا".
يبقى كلّ ذلك في حُكم الغيب ما لم تصدر الطبعات الجديدة لروايات نجيب محفوظ عن "هنداوي" و"ديوان"، وقد أعلنت الأخيرة أن إصدارها الأوّل من أعمال صاحب "اللصّ والكلاب" ستظهر أوّل مرة في أيّار/ مايو المقبل.
حتّى ذلك التاريخ، سيظلّ حبل التعليق ممدوداً، وستغذيّه ضبابية الكثير من المصطلحات في حياتنا الثقافية؛ فيكفي أن ننطق بكلمة "مراجعة" حتى تثار حميّة جزء غير هيّن من المشتغلين بالثقافة، وباتت كلمة "رقابة" مشيطنة إلى حدّ أن تصحيح خطأ لغويّ بات من الممكن وضعه تحت خانة الرقابة.
ربما علينا أن نتذكّر هنا نجيب محفوظ نفسه. لقد كان الكاتب المصري متصالحاً بشكل عجيب مع السلطة، لا يردّ على رقيب، لكنّه رغم ذلك كان يعرف كيف يمرّر ما يودّ إلى قرّائه. كم توجد في ثقافتنا المعاصرة من أعمال جريئة بحجم "الكرنك" في إدانتها للقمع البوليسي للشباب، وهل توجد خلخلة أقسى وأعمق للنظام البطريركي ممّا قدّمه نجيب محفوظ في ثلاثيّته؟