ترجمة الشعر.. الأصل الثاني

01 يناير 2023
لوحة بلا عنوان لـ صليبا الدويهي (لبنان)، زيت على كتّان
+ الخط -

قالوا إن الشعر لا يُترجَم. لعلّ العرب القدامى أدركوا ذلك، حين عفّوا عن ترجمة الشعر في ثقافات، نقلوا عنها حكايا ومباحث. ليس هذا الزعم مغلوطاً البتة. الشعر موسيقى في لغة يشقُّ نقلها إلى لغة أُخرى، ثم أنه ما تحت الكلام، احتماله ومضمره، وفي هذا لكلّ لغة أدواتها وخطّتها. لا تنجح ترجمة الشعر إلّا حين تكون، لأمرٍ ما، فوق النصّ وتتجاوزه. في غير ذلك تبقى ترجمة الشعر موصومة، وبخاصة حين تباري الأصل في موسيقاه، وفي إضماره.

يتحدّث والتر بنيامين في "مهمّة المترجم"، عن قابلية الترجمة بوصفها، خصيصة جوهرية لبعض الأعمال. الترجمة، التي هي بالنسبة لبنيامين تنبع من الأصل، ولكن ممّا يسمّيه "حياته الثانية"، أكثر من حياته نفسها. ذلك ما يسمح لبنيامين أن يتحدّث عن الترجمة، بوصفها ما بعد الحياة للأعمال الفنية. 

يُمكننا أن نتوقّف عند هذه الحياة الآخرة، على حدّ بنيامين، الحياة الثانية هي أيضاً الحياة الحبيسة داخل العمل. إنها ما تحت لغته، وإذا كانت الترجمة، وخاصة ترجمة الشعر في هدفها الأسمى، أن تستخرج هذه الحياة الحبيسة، هذه النوايا التي تبقى مُضمَرة في النص، فإن ترجمة الشعر حين تنجح، هي عمل يسعى إلى أن يصل إلى صميم النص، إلى مخزونه، إلى ما تحت كلامه، أو إلى اللغة الثانية التي تحتبس فيه. 

الترجمة مواجهة بين لغتين غريبتين تؤسّس للغة ثالثة

هذا بالطبع شاقٌّ ومحيّر واحتمالي، بل وافتراضي. ما يجعل من ترجمة الشعر، ومن الترجمة بوجهٍ عامٍّ أمراً على شفا الاستحالة، بل هو، على نحو ما، بحثٌ عمّا في خفاء النص، وفي نواياه وفي إضماره. بحثٌ عمّا يتعدّى اللغة ويزدوج معها، عن كمونها الشعري، عن الشعر الذي يتوارى فيها. لنقُل إن الترجمة هي هكذا قراءة ثانية للشعر، واستحضار له في لغة مقابلة. إنها بهذا المعنى، إذا صحّت وانوجدت، سبرٌ للنص الشعري، وإنْ عن طريق لغة ثانية. الترجمة هي بهذا المعنى استعادةٌ للشعر، وخلقٌ له في لغة أُخرى. إنها، على نحو ما، أكثرُ من نَقْلٍ، أي أنها نوع من تأليف ثانٍ إلى جوار الأصل، إنها كتابة ثانية للنص، لكنها ككلّ كتابة تعود للمترجِم، بقدر ما تعود إلى الشاعر الأصلي. إنها بهذا المعنى أصل آخر. 

هي بطبيعة الحال تَواصُل بين اللغات، أي أنها، بطريقة ما، مواجهة بين اللغات الغريبة عن بعضها بعضاً. في هذا الاغتراب اللغوي، تنحو الترجمة إلى أن تؤسّس نوعاً من لغة ثالثة. تنحو إلى أن توجَد فوق اللغة، وفي جوارها، ما يسميه والتر بنيامين "أثيراً لغوياً"، وفي محلٍّ آخر "اللغة النقية". إن الترجمة تغدو بهذا المعنى لا إضاءة فحسب على النص، ولا نقلاً له فحسب، إن لها عملاً في لغتها نفسها. إن لها مكاناً في اللغة المنقولة إليها، إنها توجد فيها أصلاً ثانياً إنها اختبارٌ أصيل للغة المترجَمة لها، اختبارٌ لدرجة أنها تأليفٌ فيه واستنفار للشعر، وأصل آخر. 

من هنا يُمكننا أن نشيد ببعض الترجمات، بل نجد أنها تؤثّر في اللغة المنقولة إليها، بل تُغني الشعر فيها وتُضيف إليه وتنميه. من هنا نجد الترجمات أحياناً، في تراث اللغة المنقولة إليها، بل في إنجازها الشعري، في شعرها نفسه. يُمكننا هنا أن نتكلّم في العربية عن ترجمة أدونيس لـ سَان جون بيرس، التي انتقدها البعض وحاولوا وجادلوا في دقّتها، لكن هذه الترجمة كانت فتحاً للشعر العربي، وبنى عليه تيار من الشعراء العرب. 

هذا لا يمنع من أن الكثرة الكاثرة من الترجمات الشعرية إلى العربية، لم تكن في المستوى، لكن ينبغي أن نُشير إلى فضل الترجمة على القصيدة الحديثة، وما أحدثته من تحويل في لغة الشعر، وفي وجهاته. نشير إلى أنّ هذه الترجمات، مشوّشة أحياناً، نجحت في أن تُطلق القصيدة العربية وأن تغيّر فيها.

لستُ مترجِماً إلّا أنّني جازفتُ أكثر من مرّة بترجمة شعرٍ أحبُّه. أذكر في هذا السياق واحداً من شعرائي الأثيرين، برنار نويل الذي ترجمت له من ديوانه الكبير "سقوط الزمن"، كما أذكر ترجمةً عن لغة وسيطة للبرتغالي بيسوا. لستُ مترجماً، غير أن هذا لا يمنعني من أن أختم بكلام لوالتر بنيامين من "مهمّة المترجم": "الشيء الغامض" هو أن الشعر لا يُمكن للمترجِم إعادته إلّا إذا كان شاعراً.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون