تجّارٌ بنادقة في بيروت: قرنان من التبادل في ظلّ المماليك

24 مارس 2022
على ضفّة شيافوني بالبندقية، في عمل لـ ليوناردو باسّانو يعود إلى القرن 16(Getty)
+ الخط -

افتتحَ "مركز لويس بوزيه لدراسةِ الحَضاراتِ القديمةِ والوَسِيْطة"، الخميس الماضي، في بيروت، الجلسةَ الأولى من سلسلة ندواته التي تتناول التّاريخَ العربي والإسلامي. وقد استضاف المركز، التّابع لـ"جامعة القدّيس يوسف"، المؤرّخَ والرّئيسَ السّابق لقسم التَّاريخ في "الجامعة اللُّبنانية"، بيار مكرزل، للحديث عن "التّجّار البنادقة في بيروت في القرنين الرّابع عشَر والخامس عشر".

انطلقَ مكرزل من محاولةِ فهمِ أسبابِ توجّهِ التُّجَّارِ البنادقةِ إلى بيروت بالذّات، فربطَ ذلكَ بانتهاء ما أسماه فترة "حُكم الفِرنجة" (أي انتهاء الحروب الصّليبية)، وبتمكُّنِ المماليك من تفكيك الموانئ الأساسيّة للفرنجة على السّاحل الشّامي: صور، وعكّا، وطرابلس، ما سمحَ لبيروت بالظّهور، في ظلّ أفولِ الأهمّيةِ الاقتصاديةِ للمدن والموانئ المُنافِسة.

كما أرجعَ مكرزل المُحاولاتِ الأولى للبنادقة في التّوسُّعِ التّجاريِّ إلى عام 1302، في مدينة الإسكندرية، لكنّها محاولاتٌ اصطدمتْ بالحظر البَاباويّ المفروض على أيّ تعامُل مع المماليك. عليهِ حاولَ البنادقةُ التعويضَ والاستثمارَ طوال عقدين، وذلك بنسج علاقاتٍ مع الإمبراطوريّة الإلخانية المغولية، للحصول على الأقمشة والتوابل منها. إلى أنْ أعلنَ البابا كليمنت السّادس فكَّ الحظر (1344)، وعودة العلاقات التّجارية.

لم يختلطوا بمسيحيِّي الشرق طوال قرنين من نشاطهم التجاري

في المقابل، هدّدَ الجِنويّون (من جنوة) المسيطرون على ميناء فاماغوستا في قبرص، مصالحَ البنادقة. في الوقت الذي استحوذَ المَماليك على ميناء أياس في الأناضول، الأمر الذي جعلَ البنادقةَ يستقرّونَ في بيروت بشكلٍ رئيس، عام 1350. أدّى هذا الاستقرارُ إلى إنشاءِ خطٍّ بحريٍّ موسميٍّ حمل اسم "مودا دي بيروتي"، وهو خطّ باتجاه واحد من البندقيّة إلى بيروت، لا العكس. عزّزَ من ديمومتِه اتّباعُهم سياسةً تفاوضيّةً مع المماليك، وامتلاكُهم عواملَ تقنية برعوا فيها: كتطوّرِ صناعةِ السُّفنِ، والبداية الجَنينيّة لفكرةِ المصارف على أيديهم (الشّيكات، الحَوالات، المحاسبة المزدوجة) والتَّأمين البَحريّ.

تابع مكرزل حديثَه مؤكّداً انفتاحَ المماليك فقهيّاً وتجاريّاً على البَنادقة، من حيث سماحهم للتجّار بالإقامةِ لأكثر من سنة، وإعطاؤهم عهدَ الأمان. كذلك سمحوا لهم بالتّنقلِ خارجَ بيروت، والتواصلِ مع حلب ودمشق وبعلبك، وركوبِ الحصان في أثناء التنقّل، وارتداءِ الزّي غير الذّمّي خارج المدن. بالإضافة إلى إقامة الصلوات في كنيسة "المْخَلِّص" الواقعة في بيروت، عدا عن السّماح لهم بشرب الخمر داخل بيوتهم.

امتازَ نمطُ حياة البنادقة بالهرميَّة والانغلاق على نفسه، وفقاً لمكرزل. فالتُّجار ينحدرون من طبقة النبلاء الرّجال العازبين حصراً، مع استثناءات قليلة. ولم يُعرَفْ عن هؤلاء أيُّ اختلاط بمسيحيِّي الشَّرق، طوال قرنين من نشاطهم التجاري. أمّا تأثُّرهم الثقافيّ باللُّغة العربية، فكانَ منحصراً ببضعة مُصطلحاتٍ متعلّقةٍ بأشغالهم المباشرة، حيث تحوّلت كلمات مثل "غريم" "ومكاري" و"غربَلَ" و"أبطلَ" إلى: غريمو، مكارّو، غربالار، بطلو.

صعدَ وأَفلَ الوجودُ البُندقيُّ في بيروت، وفقاً لتبدُّلِ الشروط. فللأوبئةِ والطّواعين دورٌ خطيرٌ، بالتّوازي مع الغَرامات الاقتصاديّة التي كان يفرضُها المماليك أحياناً مثل "البلص"؛ وما للبنادقة من سلوكيّاتٍ وَصَمَتْ تعاملَهم مع الآخرين مثل: الغشّ، وبيع البضاعة الفاسدة، وتورطهم بعمليات خطف وبيعِ رقيق. الأمر الذي زعزع الثقةَ وخلق جوّاً من الشّائعات حولَهم. لكنّ قلقَ المماليكِ الأكبر تأتّى من محاولة البَنادقة التواصُلَ مع العثمانيِّين والصفويّين، في ذروةِ الصِّراع بين هذه السّلطنات الثّلاث. فانعكسَ هذا بتأليبِ الأمراء للُّصوص كي يقوموا بنهب بيوت البنادقة، أو التّضييق على بريدِ البنادقة المنقولِ بين حلب ودمشق مع بيروت، مخافةَ احتوائه على علامات تجسُّس.

استمرَّ الحضور البندقي في بيروت حتّى أواخر القرن الرابع عشر. ثم خفَتَ مع اكتشاف الأميركيّتَيْن، ورأس الرّجاء الصالح، ما عزّزَ فرصَ الوصول إلى الهند وطريق التّوابل بالاستغناء عن بيروت، فتراجَعَ دورُ البحر المتوسط في رَسم العلاقات التّجارية.

يُشار إلى أنه سيُحاضر في النّدوتين التاليتين (31 آذار/ مارس و7 نيسان/ إبريل) كلٌّ من أستاذ التّاريخ القديم في "الجامعة اللُّبنانية"، مروان أبي فاضل، حول "نظرة ابن خلدون إلى التّاريخ الكنعانيّ والقرطاجيّ"، وأستاذ الفكر الإسلامي وعلم الكلام في "جامعة القدّيس يوسف"، أحمد الزّعبي، حول "الهويّة والوعي والانتماء في التّكوينِ التّاريخيّ العربيّ والإسلاميّ في الوسيط".

المساهمون