تجنيد الأدب

14 مايو 2021
في القدس القديمة، 1997 (Getty)
+ الخط -

يقدم غسان كنفاني، في كتابه "في الأدب الصهيوني"، ما يؤكّد أن الجملة الراسخة التي تقول إن الأدب لا يمكن إلّا أن يكون مدافعاً عن قيم الحق والخير والعدالة والكرامة الإنسانية، ليست صحيحة بالمطلق. إذ إنّ الأدب الصهيوني الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، لكتّاب من اليهود ومن غير اليهود، كان أساسه الفكريّ قائماً على فكرةٍ عنصريّة تدعو إلى قيام دولة مقابل ترحيل شعب. وقال غسان كنفاني إن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، عبر سلسلة من الروايات التي كان لها هدف مباشر وصريح يرفع شعار "العودة إلى أرض إسرائيل".

ليست هذه هي المرّة الأولى في التاريخ التي يُجَنَّد فيها الأدبُ لخدمة القضية السياسية، ولكنّها المرّة الأولى التي يعمل فيها تيّارٌ أدبي من جنسيات متعدّدة لخدمة الصهيونية كفكرة لها هدف محدّد هو إعادة تأهيل ديانة من أجل تكوين شعب يتمّ إعداده لاحتلال أرض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني، بعد تجاهل وجوده تماماً.

اللافت أن يكون هذا الأدب المشغول انشغالاً مباشراً بالرسالة السياسية أكثر من انشغاله بقيَم الفن، قد اعتُبر، في الدراسات الثقافية الغربية، درساً في النهضة. ففي الكتاب الجماعي الذي أخذ عنوان "عصور نهضة أخرى" (صدر في سلسلة "عالم المعرفة"، العدد 417)، مُنح موشيه بيلي فصلاً يكتب فيه عن "إحياء اللغة العبرية وتجديد الشعب اليهودي"، تحت العنوان الرئيسي: "كيف سبقت نهضة ثقافية نهضة قومية؟"، وهي مقالة تنطلق من المقدّمات التي بدأ بها غسان كنفاني كتابه، لتصل إلى نتائج مضادّة تماماً للنتائج التي توصّل إليها، معزَّزَةً بتأييد المؤسّسات البحثية في العالم.

أكبر عملية تضليل وتزوير في التاريخ لخدمة هدفٍ لا إنساني

ترتبط النهضة التي تشير إليها مقالات الكتاب بالفكرة القومية، حيث تعمل القومية بوصفها نزعةً مجرّدة (توصف بالإنسانية) من أيّ حمولة أخلاقية، أو تاريخية، أو حقائق جغرافية، من أجل أن يعتبر المقدّس من جهة، والشعار السياسي المعدّ للتطبيق من جهة ثانية - هي الأكثر أهمية - صحيحَيْن.

ولهذا يتجاهل كتاب "عصور نهضة أخرى" القضيّة الفلسطينية، في مُجمل بُنيته الفكرية التي تأسّس عليها مشروع إعداده وتأليفه، لصالح فكرة النهضة. وبغضّ النظر عن أنه يعتبر أنّ كل النهضات التي حدثت عقب النهضة الأوروبية كانت تقليداً لها أو استلهاماً، فإنه يعمل لمرّة جديدة، بعد كل ما جرى من اقتلاع للشعب الفلسطيني، على محو تاريخ هذا الشعب. إذ لا يشير المحرّرون بتاتاً إلى أيّ نقص في مقالة موشيه بيلي التي تتجاهل اسم فلسطين، وتتجاهل الشعب الفلسطيني وراء التهليل لموضوع النهضة، ونشوء القوميات، بحيث يبدو كأنّ نشوء القوميات كان يعني في المضمر القضاء على الشعوب الضعيفة.

إذا كنت لن تجد أيّ رواية من تلك الروايات التي أسّست للصهيونية في كتابٍ مثل "عشر روايات خالدة" أو في كتاب مثل "بُناة العالم" - ولن توجد بالطبع ــ، فإن هذا لا ينفي أنها سوف تظلّ ماثلة بوصفها استخدمت النوع الموصوف بـ"مناصرة الإنسانية" للقيام بأكبر عملية تضليل وتزوير في التاريخ لخدمة هدفٍ لا إنساني.


* روائي من سورية

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون