بُرهانُ التَّذاوُت

18 يونيو 2022
جزء من عمل بعنوان "بحران" لـ إليزابث بولزا/ النمسا
+ الخط -

ارتقى التطوّر الرقمي بالإنسان في العَقدَين الأخيرَين بصورة مُذهلة، فغزا العلوم والفنون والاقتصاد وسواها، وفرَضَ علاقات وقِيَماً وتصرُّفاتٍ جديدة، ثمّ تكفَّلت شبكاتُ التواصُل الاجتماعي بالترسيخ السريع لتلك العلاقات والقِيم، إلى درجة أنّ من لا يُسايرُها، يبدو انعزالياً ومنتمياً إلى كوكب آخر.

حقيقة أنّ بعض المفكِّرين ارتابوا بهذه الشبكات، واعتبروها مُراقَبةً سائلةً، مثل زيغمونت باومان، واجتهاداً في أساليب السيطرة الناعمة للدَّولة على المواطنين، الذين يُذعنون لتحكُّمها فيهم، ولا يتردَّدون في تشارُك معطياتٍ كثيرة عن حياتهم مع الآخَرين، بِحُكم أنّهم يَعرِضون طواعيةً ما يكون خاصاً بهم وحميماً. لكنّ هناك مَن ينظر إلى هذا السلوك بصفته سِمَة جديدة تطبع الحياة البشرية في العصر الرقمي، الذي أسقط افتراضياً الجدرانَ بين الدول والمجتمعات والأفراد، والذي تَسودُه فلسفةٌ تُعرَف بـ"التَّشارُك".

ويبدو لي أنّنا لن نختلف في أنّ التشارُك هو الهاجس المحرِّك لكلّ كتابة بصفتها تواصُلاً، لأنّ المؤلِّف يطمح عند كتابته لنصوصه إلى أن يتشارَكها مع أكبر عدد من القُراء، من خلال طبعها وتوزيعها، لكي تتخطّى هذه النصوص فضاءَها اللغوي والثقافي الذي أُنتِجت فيه، وتصل إلى ثقافات العالَم الأُخرى في لغاتها، والأكيد أنّ هذه العملية تُسمّى تشارُكاً أيضاً، وأنّ الترجمة هي السبيل المُمَهِّد لها والمُسهِمة الكبيرة في رواج سوقها.

والمعروف أنّ أساس الترجمة هو الاعترافُ بالآخَر، بتقديمه إلى غير أبناء ثقافته، وإبداءُ الاستعداد لتَشارُك المعرفة والوعي بين المؤلِّف وقارئه في غير لسانه الأصلي، بإسهامها العمليّ والحاسم في إنجاح تبادُل المعلومة والخِبرة والجمال والقِيم وغيرها بين المنتمين إلى ثقافات مختلفة، لضمَانها فضاءً يُرسِّخ الحوار بين أكثر من طرف، وما يترتّب عنه ضمن العلاقات الاجتماعية من تقارب وتفاعل. وإذا ما استحضرنا أنّ مُهمَّة الفلسفة بحسب دولوز هي ابتكار المفاهيم، فإنّ المفهوم الفلسفي الأكثر استيفاء للتعبير عن الترجمة هو ما يُعرَف في الفلسفة وعلم النفس بـ"التَّذَاوُت" Intersubjectivité.

لن نختلف في أنّ التشارُك هو الهاجس المحرِّك لكلّ كتابة

وكما نعلم، فإنّ الأفكار والمفاهيم تُسافر مثلما البضائع وغيرها، لذلك وجدنا لمفهوم التَّذاوت أو "الذاتية المشتَرَكة" تعريفاتٍ كثيرة، طِبقاً للمَبحث الذي يَستحضره أو يُوظِّفه. ونحن نُجمِله في كونِه تفاعُلاً بين الناس بصدد أفكار أو مواقف تنتهي بهم إلى التفاهُم والتعايش، بناءً على نجاحهم في التحاوُر في ما بينهم، وفي تجسيد لذلك المُثلّث الأخلاقي، الذي اقترحه بول ريكور، والمعروف بـ"الاستهداف الأخلاقي" وأركانه ثلاثة؛ أوّلاً: التطلُّع إلى الحياة الجيّدة والخيِّرة، ثانياً: مع الآخرين، ثالثاً: في إطار مجتمع مؤسّسات عادلة.

هكذا تُقدّمُ الترجمة ذاتَها مثالاً ملموساً للتذاوُت نصِّياً واجتماعياً، فهي تَحقُّق نصّي موسوم من جهةٍ أولى: بتفاعُل وتعاطُف ذاتٍ مضاعَفَة، الأولى هي ذاتُ المترجِم، التي تسهر على إخراج النص المنقول بحلّة تُرضي مؤلِّفه مَبدئيّاً، بحيث تتجنَّب التحريف فيه وكلَّ أشكال الرِّقابة. والثانية هي ذات قارئ الترجمة بأفُقه الإنساني الرحب، الذي يسعى إلى اكتشاف المختلف، والتفاعل مع قضاياه الجمالية والوجودية.

وهي، من جهة ثانية، تَحقُّق نصي يُراعي حقوق المؤلِّف مثلما حدث للفرنسي أَندريه جِيد لمّا ترجم له طه حسين رواية "الباب الضيّق"، والذي أبدى تحفُّظه بقوله: "يُدهشني اقتراحُكَ ترجمة كُتبي إلى لغتكم؟... إلى أيّ قارئ يُمكن أن تُساق؟ وأي الرغبات يمكن أن تُلَبَّى؟ ذلك أن واحدةً من الخصائص الجوهرية في العالَم المُسلم، في ما بدا لي، أنه وهو الإنساني الروح يَحمل من الأجوبة أكثر مما يُثير من أسئلة. أمخطئٌ أنا؟".

ليأتيَ ردُّ طه حسين في مقدِّمة الترجمة نفسِها تعبيراً تَذاوُتياً بامتياز: "أَأُدهِشُك يا سيدي إنْ قلتُ لك إنَّ (الباب الضيق) ليس أوَّل كتاب تُرجم إلى العربية من كتبكم؟ فقد ترجمت (السمفونية الريفية) منذ أكثر من عشر سنين، وطُبِعت ترجمتها غير مرّة. وترجمت بعد (الباب الضيق) (مدرسة النساء)، وفي النية أن يُقدّم (المُزيّفون) إلى قرّاء العربية. ومن يدري لعل (أقوات الأرض) أو (بروميتيه) أو (بالود) أن نُترجم في وقت قريب. إنّ الشرق العربي جدير أن تثق به. إنه يُذيع أدبك كما أذاع من قبل آداب قادة الرأي في العصر القديم".


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون