"كل الأوساخ اللي في الدنيا لا تتجاوز 10٪ من اللي بيعملو لنا حتى يقلعونا من بيوتنا".
منذ سمعت هذه الجملة من الرجل الفلسطيني المهجَّر من بيت عائلته في حيفا، نبيل سعيد الكرد، وهو الذي سُرِقَ نصف بيته والمستهدف بأكمله من قبل الصهاينة المستوطنين في حيّ الشيخ جرّاح، وأنا أفكّر في بلاغة المنكوبين في التعبير عن نكبتهم. هنا بلاغة معبّرة ولاذعة من نوعٍ خاص. إنّها بلاغة روحٍ تعرفُ الحقيقة والحق كما لو أنّه نورٌ ساطعٌ يشرقُ وينفجرُ لوصف حثالات المستوطنين الذين عرّضوه وعائلتهُ لمهانات لا توصفُ من أجل طردهم من بيتهم. كلُّ هذا حتى يسيطرَ ويعيشَ فيه رجل أميركي من عيار مفزع من الفجاجة، معترفاً لأمل الكرد، بنت نبيل الكرد، بأنّه "إذا لم يسرق هو نفسه البيت، فإنَّ غيره سيسرقه".
تكاد قضية فلسطين كلّها تلخَّص في هذا الجملة. السارق والمجرم والكاذب والمخادع وغيرهم من الأصناف الوطيئة من البشر أمثال هؤلاء تعرفُ أنّها كذلك، فلا يستطيعون تجاوز العفن الذي تتغذى عليه أرواحهم بظلم الناس وترويعهم "والسلبطة" عليهم بوسائل وضيعة ودنيئة. الأخلاق عند هؤلاء الناس هي حقل قوة، لا مكان للفضائل والعقلانية والجمال والإنسانية، حسب الفلسفة اليونانية والإسلامية وفلسفات أُخرى. أمثال هؤلاء الناس لا يمكنُ التفاوض معهم أو مهادنتهم والعيش معهم بسلام، لأنَّ السلام نقيض لما جُبِلوا عليه ولما تتكوّن منه شخصياتهم من عنصريّة وظلم.
نظّرَ فرانتز فانون في كتابه "المعذبون في الأرض" لعنف ضحايا الاستعمار وتحدّث كيف أنّ العنف يتغلغل في شخصية الضحايا بحيثُ يلتحم فيها رغبةً في الانتقام من المحتل الذي فرض عليهم العنف بالأساس. العنف مطلق هنا. كما تحدّث عن الثقافة الوطنية وكيف أن المثقفين يلتحمون مع الشعب ومع المقاومين في أشعارهم وأغانيهم وكتاباتهم من أجل التعبئة وعكس حالة النضال ضدّ المحتل الغاشم. في الحالة الفلسطينية هناك ما يدلّل على كلِّ ذلك، حيثُ إن النديّة جزءٌ متأصلٌ في ثقافة المقاومة.
مشهد بحاجة إلى خلاص شامل، لا إلى مهادنة وتواطؤ
يريدُ الاحتلال الإسرائيلي، والمنظومة الصهيونيّة الوحشيّة، من الفلسطينيين الاستسلام والتسليم له والقبول بقوانينه العنصريّة، ويريد الفلسطينيون العيش بكرامة وعزّة على أرضهم، وهكذا بين الطرفين لا يوجد منطقة توافق أو التقاء، لأن وحشية الاستعمار هي التي تمنع من هكذا نقطة التقاء. الالتقاء لا يمكن أن يحدث دون مساواة في العيش وكرامة للجميع، وهذا هو الحال في فلسطين.
ومن هنا، فإن تعبير الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، والناطقين باسم فصائل أُخرى للرد على القصف الإسرائيلي، "وإن عدتم عدنا" أو "وإن زدتم زدنا"، هو تعبير بليغ وموجز عن حالة النديّة والشراسة التي تمتاز بها المقاومة أيضاً. عُنفُ "إسرائيل" مطلق، وبالتالي التعبير عنه من قِبلِ الناس في فلسطين هو مطلق، بمعنى أنّه بليغ ويخرج عن سياق العادي في وصف مدى الدمار والترهيب الذي يمارسه النظام الاستعماري الصهيوني على الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة. الفلسطينيون يعيشون في أقاصي البلاغة لأن ما تفرضه عليهم هو غاية في القسوة والظلم.
يقول فرانتز فانون في كتابه (وهنا أترجم): "ولكن يحدث أنَّه لمن هم تحت الاحتلال أنَّ هذا العنف، ولأنّه يُمثلُ شغلهم الشاغل، يضفي على شخصياتهم صفات إيجابية وإبداعيّة. ممارسة العنف يربط الناس ببعضهم البعض ككلِ لأنَّ كل فرد يشكلُ رابطاً عنيفاً في سلسلة العنف... الكفاح المسلح يُعبئ الناس، أي يُلقي بهم في اتجاه واحد، واتجاه واحدٍ فقط".
ليس هنا احتفاءً بالعنف، ولكن من الضرورة فهم ما يحدثُ في حالة الاستعمار، بحيثُ تنعدم الخيارات ويصبحُ الخلاص من براثن المحتل الشغل الشاغل للجميع، وإن خفتَ صوتُ البنادق أحياناً.
بلاغة روحٍ تعرفُ الحقيقة والحق كما لو أنّه نورٌ ساطعٌ
ومن هنا تُجسد فكرة ما قد نسميه "بلاغة المنكوبين" الحالة القصوى من التعبير عن المشهد الفلسطيني كمشهدٍ بحاجة إلى خلاص شامل، لا إلى مهادنة وتواطؤ مع المحتل. بلاغة المنكوبين هي صوت المرأة الفلسطينية التي سُرِقَ بيتها في حي الشيخ جراح، وحين سألتْ عن المحاكم الإسرائيلية، قالت مستعينة بتراث الأمثال الشعبية الغني للغة العربية: "لمين تشكي والقاضي غريمك"، أي أن القضاة والمحاكم وعناصر الحكم كلها في "إسرائيل" قائمة على النهب والسلب وظلم الفلسطينيين، وبالتالي من العبث توقُّع العدالة من أمثال هذه المؤسسات الاستعمارية وموظفيها.
ومن هنا فإنَّ المنظومة الصهيونيّة وَمُفَعِّليها ينطبق عليهم وصف حنا إرندت في تعبيرها البليغ "سماجة الشر"، حين كانت تتحدث عن النازية في ألمانيا، حيث إنَّ القائمين عليها من قادة وجنود ومؤسسات يؤدون وظائف عادية بيروقراطية تُكوّن ما تسميه حالة "سماجة الشر"، أي اعتياديّه الظلم والشر في أعمالهم وحياتهم.
صحيح أن هناك أفراداً ومنظمات داخل المجتمع الاستعماري صادقون، في نيتهم العيش والتعايش، وبينهم أناس شجعان، ولكنهم أقليّة في داخل المنظومة الصهيونية المتغطرسة، ومع هذا لا بدَّ من أخذهم بالاعتبار على طريق تحرير فلسطين الشاق، وتحرير جميع البشر الموجودين على الأرض هناك من الاستعمار والعدوانية بالدرجة الأولى.
بلاغة المنكوبين فكرة عن أصحاب حق وحقائق يعيشونها ويعرفونها ويعبّرون عنها بصور وتعابير تعكس حجم الظلم والجبروت الواقع عليهم. هؤلاء لا يقلون أهميَّة عن أولئك الكُتاب والكاتبات الفلسطينيين وغيرهم، الذين وَصفوا ببلاغة فصيحة مأساة فلسطين منذ وقوعها حتى الآن.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن