بعد استقرار الدولة العباسية، بدأت بإعادة تشغيل طريق التجارة القديم بين عُمان والهند نحو الصين، والذي كان يسمى طريق الحرير البحري، بعد أن أغلقه الفرس الساسانيون منذ عام 225 ميلادي لصالح طريق الحرير البري العابر لأواسط آسيا.
ومنذ مطلع القرن التاسع الميلادي بدأت تصلنا نصوص رحلات يقوم بها على الأغلب تجار عرب إلى الهند وجنوب شرقي آسيا، منها رحلة التاجر أبي عبد الله محمد بن إسحاق الذي لا نكاد نعرف عنه شيئاً سوى ما ذكره الجغرافي ابن رستة في كتابه "الأعلاق النفسية"، حين استوعب فيه رحلة ابن إسحاق.
ونعثر على نصوص واقتباسات من هذه الرحلة لدى عدد كبير من الجغرافيين المسلمين، ومنهم الجغرافي الإيراني شرف الزمان طاهر المروزي (كان حياً عام 512 هجري/ 1118 ميلادي)، والذي حقق له المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي كتاباً عن الهند والصين وبلاد الترك، إذ توضح المقارنة النصية أنه هو نفسه نص ابن اسحاق بحرفيته، وهذا خطأ كبير من المحقق الذي كان عليه أن يشير إلى ذلك في تحقيقه.
ويبدو أن ابن إسحاق التاجر قام برحلته هذه في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، إذ كان في تلك البلاد عام 835 م كما يرد في متن الرحلة الثمينة التي عرف قيمتها جغرافيو العصر العباسي، واستخدموها من دون الإشارة إلى صاحبها، فهو وصف بشكل مسهب الطقوس عند تمثال بوذا العملاق، والذي يحتمل أن يكون هو نفسه تمثال باميان الشهير، وأشار إشارة بالغة الغرابة إلى استثمار هذا التمثال من جانب حكام عرب مسلمين لتلك الجهات، وهو استثمار كان يدر عليهم أموالاً طائلة. كما أنه وصف مصارعة الديكة في إندونيسيا القديمة، علماً أن هذه المصارعة جزء من طقوس دينية عند بوذيي تلك البلاد حتى يومنا هذا.
عقوبة الزنا وشرب الخمر
بدأ أبو عبد الله ابن إسحاق حديثه عن تلك البلاد باستعراض بعض عاداتها الاجتماعية، إذ قال: "إن عامّة ملوك الهند يرون الزنا مباحاً، ما خلا ملك قمار (هي كمبوديا الحالية)، فإني دخلت مدينته، وأقمت عنده بها سنتين فلم أر ملكاً أغير ولا أشدّ في الأشربة منه، فإنّه يعاقب على الزنا والشرب بالقتل".
ويضيف: "وليس أحد من ملوك الهند، ممن خالطته وبايعته (أي تاجرت معه)، يسرف في شرب الشراب ما خلا ملك البهل (ربما هي سريلانكا الحالية)، وهو ملك سرنديب، ينقل الخمر إليه من بلاد العرب فيشربها، ورأيت تجار الهند وسائرهم لا يشربون الشراب قليله ولا كثيره، ويعافون الخلّ من الأشربة، فخلّهم من ماء الأرزّ المطبوخ، يحمضونه حتّى يصير بمنزلة الخلّ، ومن رأوا من أهل الإسلام يشرب الشراب فهو عندهم خسيس لا يعبأون به ويزدرونه، ويقولون هذا رجل ليس له قدر في بلاده، وليس ذلك منهم ديانة".
ويقول إن ملك قمار يعاقب قواده وجنوده إذا شرب أحدهم خمراً بتحمية "مائة حلقة من حديد بالنار ثم يوضع ذلك كلّه على يد ذلك الرجل الشارب، فربّما أتلفت نفسه جراء ذلك، وهو ملك شديد الغيرة ليس في ملوك الهند أشدّ غيرة وعقوبة منه، ومن عقوبته قطع اليدين والرجلين والأنف والشفتين والأذنين، ولا يلتفت إلى الغرامة كسائر ملوك الهند".
رهبان بوذيون
ويشير رحالتنا إلى كثافة وجود الرهبان البوذيين في قمار (كمبوديا الحالية)، حتى اعتقد أن أصل هذه الديانة من قمار يقول: "أصل العُبَّاد من بلاد قمار، يقال إن فيها مائة ألف عابد". ويمتدح القضاء في هذا البلد حيث يقول: "لملك قمار ثمانون قاضياً، لو ورد عليهم ولد الملك لأنصفوا منه وأقعدوه مقعد الخصم". ويلفت النظر إلى أن ملك قمار لديه "ثمانون ولداً ذكراً لهم جمال وهيئة يصلحون للملك". ويعلق رحالتنا: "يزوّجون أولادهم الذكور صغاراً، ويزعمون أن ذلك خير وأصدّ من الزنا".
ومع ذلك فالقوانين الصارمة التي سنَّها ملك قمار تنطبق فقط على بلاده، فأما إذا خرج جنوده للقتال، فيشدد عليهم أن لا يصحبوا نساءهم معهم، أي أنه أباح لهم ما لأعدائهم، بما في ذلك سبي النساء، كما يشرح محدثنا.
ويؤكد ابن إسحاق أنه رأى بالإضافة إلى ملك قمار ملكاً آخر يدعى العابدي، وهو ملك رتيلا، وملكاً يليه يقال له العارطى، وملكاً يقال له الصّيلمان، ويقول إن هذا الأخير أكبر قدراً من العابدي والعارطي وأكثر جيشاً منهما، ويشير إلى أن عدد جيشه يبلغ نحو سبعين ألف جندي.
فيلة الحروب
ويحدّثنا رحالتنا عن الفيلة المقاتلة في جيش هذا الملك، إذ يقول: "له فيلة قليلة إلّا أن الهند يقولون إن فيلة الصيلمان أجرأ على القتال من جميع فيلة أهل الهند، ورأيت له فيلاً يقال له النمران، ما رأيت لأحد من الملوك ببلاد الهند فيلاً مثله، أبيض منقّطاً بسواد، ولا أجرأ على القتال والدماء منه".
ومن أساليب تدريب واختبار فيلة القتال عند ملك الصيلمان "أنهم يوقدون النار العظيمة، ويحملون الفيلة عليها، فمن اجترأ عليها واقتحمها، فإنه جريء على القتال والدماء، وما جبن عن النار لم يصلح للقتال ولا للركوب، بل ينقل عليه المتاع كما ينقل على الإبل". ويتابع واصفاً وضع الفيلة في بلاد الملك المسمى العابدي حيث يقول: "رأيت هذا الملك الذي يقال له العابدي وليس في بلاده فيلة، يشتري الفيلة، ولا يشترى ما ارتفاعه خمس أذرع، ويبتاع كلّ ذراع تزيد على خمس أذرع بألف دينار إلى تسع أذرع، ولم أر منها شيئاً يزيد على تسع، غير أنه بلغني أن ببلاد الأغباب بلاداً تدعى أورفسين، وملكتهم امرأة يقال لها الرابية، ويكون بمملكتها في موضع يدعى براز، لها فيلة تكون عشر أذرع إلى إحدى عشرة ذراعاً، فهذا ما بلغني من ارتفاع فيلة بلاد الهند".
بلاد الكمكم والملك العادل
يؤكد رحالتنا أن جميع الملوك الذين تحدث عنهم "يرون الزنا مباحاً، غير أن من أحصن منهم بامرأة (أي تزوج) فعرض لها عارض وزنيا قتل الرجل والمرأة". وينتقل ابن إسحاق بعد ذلك ليحدثنا عن ملك يسمى بلهرا وهي عبارة تعني ملك ملوك الهند، وهو ملك واسع المملكة كثير الجيش، كما يقول، ويشير إلى أن بلاده تدعى بلاد الكمكم، وهو اسم هندي، ويؤكد أن شجر الساج ينمو في بلاده ومنها يجلب، حيث تعد مملكته المصدر الرئيسي لهذا النوع من الخشب. ويقول: "من ورد من رسله على هؤلاء الملوك، أي الملوك الذين ذكرهم سابقاً، صلّوا له إعظاماً لصاحبه".
ويضيف: "يلي هذا الملك ملوك أحدهم يقال له ملك الطافن، وهو قليل المملكة، كثير المال، عامر البلاد وأهل مملكته سمر وبيض، فيهم جمال مستفيض، وفي رقيق (عبيد) بلادهم جمال ليس يشركه في ذلك أحد من الملوك ممن يليه، وبعده ملك يقال له نجاب، وهو شريف فيهم، وبلهرا الملك يتزوّج فيهم، ولا يتزوّجون إلّا فيهم لشرفهم، والكلاب السلوقيّة يقال إنها وقعت من بلادهم، ولهم الصندل الأحمر في بلادهم وغياضهم".
ويتابع رحالتنا وصف بلاد الهند الكبرى متوجاً من الشرق إلى الغرب، فيكتب عن ملك يقال له الجرز يقول إن "العدل في مملكته مستفيض لو طرح الذهب في وسط الطريق ما خافوا عليه أحداً يأخذه من عدلهم، وبلاده واسعة، والعرب يرحلون إليه في تجاراتهم، فيبرّهم ويشترى منهم، ومعاملاتهم لهم بالذهب القطع والدراهم التي يقال لها الطاطرى، عليها تمثال صورة الملك، وزنها مثقال، فإذا بايعوهم قالوا للملك ابعث معنا من يخرجنا من بلادك ويحفظ متاعنا، فيقول ليس في بلادي لصّ، اخرجوا فإن حدث بأموالكم حدث فخذوه مني، وأنا الضامن لكم، وهو ملك له جسم كبير، وليس حوله ملك أشجع منه في الحرب، كثير المكيدة وهو يقاتل بلهرا وملك الطافن ونجابة".
حكام عرب لبلاد الملتان
بعد ذلك يحدثنا عن بلاد الملتان، وهي بلاد واسعة كانت تشمل مناطق واسعة من باكستان الحالية وأفغانستان وإيران، ويقول: "الملتان البلد الذي ينشقّ به نهر مهران (هو نهر السند حالياً)، وهو نهر مثل دجلة وأكبر، وبالملتان قوم يزعمون أنهم من ولد سامة بن لؤيّ، يقال لهم بنو منبّه، وهم الملوك على الهند فيها، وهم يدعون لأمير المؤمنين، وهي تلي المنصورة من السند".
ويحدثنا ابن إسحاق عن تمثال كبير لبوذا، إذ يقدّم لنا وصفاً نادراً له يشمل الطقوس التي كانت تقام عنده، ويشير إلى أن سبب ثروة بني منبّه هؤلاء من دخل هذا الصنم، ويقول إن دخله فيما أخبره من يثق بقوله، لا يحصى كثرة، وربّما غزا ملوك الهند بني منبّه يخرجون إلى الملتان في جيش عظيم فيقاتلونهم، فتغلبهم بنو منبّه ليسارهم وقوّتهم وكثرة أموالهم.
وصف تمثال بوذا
يقول في وصف هذا تمثال بوذا: "طوله أرجح من عشرين ذراعاً، على صورة رجل، وله بيت عليه سقف عظيم لا يُدرى من بناه، ويقال إنه بني منذ ألفي سنة، والهند يقولون إن هذا الصنم نزل من السماء، وأمرنا بعبادته، وله سدنة يقومون عليه، وله نفقات من دخل الصنم، سوى ما يجرى على سدنته، يطعمون، ويسقون، ويكسون، والهند كلّها ترى الحجّ إليه، وإذا مات الرجل موسراً أوصى له بشطر ماله، أو بماله أجمع، يتقرّب إلى ذلك الصنم، ويحجّون إليه من مسيرة سنة وأكثر، ويحلقون رؤوسهم عنده، و يطوفون سبعاً على اليسار تقرّباً إليه وتضرّعاً، و يتمرّغون بين يديه ويخشعون، وله أربعة أوجه، حيث ما دار استقبله وجهه".
ويضيف: "ويقولون هذا إله يعبد، له إقبال ولا إدبار، حيث ما رأيته استقبلك بوجهه، وإذا طافوا حوله سجدوا له عند كلّ وجه يستقبله، فمنهم من يقلع عينه فيضعها في كمّه فيقول: أيّها البدّ قد تقرّبت إليك بها فأطل عمري وارزقني وافعل بي كذا وكذا، وفيما أخبرني من رأى منهم من يحمل قطعتي صندل أحمر على عاتقه، كلّ واحدة حمل رجل من مسيرة سنة، فيضع على قدر فرسخ من مخرجه واحدة، ويتقدّم بأخرى، فيضعها ويرجع إلى الأخرى فيحملها، فيتقدّم بها، فلا يزال يقدّم واحدة ويؤخّر أخرى مسيرة سنة حتّى يصير بهما إلى هذا الصنم الذي بالملتان، ومنهم من يستأذن الصنم ويقول ائذن لي في الموت، فيعمد إلى خشبة طويلة فيحدّد رأسها وينصبها في الأرض، ثم يصعد إلى فوقها، فيدخل رأس الخشبة الحادّة في بطنه حتّى يخرج من ظهره فيموت، ويزعم أنه قد تقرّب إلى الصنم، ومنهم من يأتي بالمال العظيم فيطرحه بين يدي الصنم، ويقول يا إلهه وسيّده اقبل هذا معونة من مالي".
ويتابع رحالتنا وصفه للطقوس والسدنة: "لهذا الصنم وغيره من الأصنام سدنة لا يأتون النساء، ولا يأكلون اللحم، ولا يذبحون الذبائح، ولا يلبسون الثياب الدنسة، ويتطيّبون إذا صاروا إلى الأصنام، وليس يدخل عليها غيرهم ممن يطيّبها بيده، وينالها بكفّه، فإذا دخل عليها برك على ركبتيه، وجمع كفّيه، وبسطهما، وسأله أن ينظر إليه ويرحمه، ويبكي ويتضرّع إليه ويدعو، وله مطبخ يطبخ فيه الأرزّ الأبيض الجيّد، ويعمل له أطعمة من السمك والحشيش، وتجوّد وتطيّب، ثم يعمد إلى ورق موز عندهم عريض مقدار ما يلفّ فيه الرجل والرجلان، فيبسط بين يدي الصنم ثم يصبّ الأرزّ عليه بقدر نصف قامة رجل، ويعمد أفضل هؤلاء القوم رجلاً في نفسه، فيأخذ ورقة موز فيروّح فور الأرزّ وحرارته في وجه الصنم، فيقول إنه قد أكل، وأنه لا يطعم بكفّه وراحته، وقبل أن يطعم يدار حول البيت الذي فيه الصنم بالصنوج والزمر والطبول، وربّما دارت حوله مائة جارية لهنّ أقدار، فيقلن نحن نرقصه ونترضّاه، ثم يطعم، ويُرى الطعام لا ينقص، فيغلقون عليه الباب ثم يفتحونه، وينقل ذلك الطعام من بين يديه، ويقولون قد تصدّق به، فلا يبقى صنف مارّ ببيت ذلك الصنم إلّا انتفع بذلك الأرزّ، حتّى الطير والكلاب، ولا يمنعون منه أحداً، ويقولون هذه صدقته في كلّ يوم، وربّما غسل بدن الصنم باللبن، وربّما غسل بالسمن، فيغسل به بعد ذلك مرضاهم ويستشفون به".
جزائر المهراج
بعد حديثة الموسع عن بلاد الهند ينتقل ابن إسحاق للحديث عن جزر بلاد المهراج، وهي بلاد بحرية واسعة جداً تشمل من جملة ما تشمل إندونيسيا الحالية، ويقول "الملك الكبير يقال له المهراج، وتفسير المهراج ملك الملوك، وليس يعدّ في ملوك الهند أعظم منه، لأنه في جزائر، ولا يعلم ملك أكثر خيراً منه، ولا أقوى وأكثر دخلاً".
ثم يحدثنا عن مصارعة الديوك في هذه الجزر، والتي يسميها "قمار الديوك"، حيث يبلغ دخل الملك من هذه المصارعة في كلّ يوم خمسين منّا ذهباً، ويقول: "ذلك إن عاقر ديك مع ديك غيره له أخذ الديك الغالب فيفتديه صاحبه بمثقال ذهب أو أقلّ أو أكثر، وهذا في مملكته كثير".
ويصف رحالتنا طريق التقاضي والتخاصم في جزر بلاد المهراج بأنه تتم بالنار ويقول: "إذا خاصم الرجل الرجل عند السلطان أن يقول أنا حاصل النار، يقال للمدّعى عليه في الدّين، أو الزنا بالمحصنة، أو السرقة وما يجب فيه القتل، فيأتون السلطان فيأمر فيأخذ وزن رطل أو أكثر حديد، فيحمى بالنار ثم يعمدون إلى ورق يكون عندهم يشبه ورق الغار في الغلظ والمتانة، فيوضع على كفّه منها سبع ورقات بعضها فوق بعض، ثم توضع تلك الحديدة فوقها بكلَّابتين، فيمضي به سبع مرّات ذاهباً وجايئاً قدر مائة خطوة، فإن أحرق يده والورق جميعاً ألزم الذنب، فإن كان عليه القتل قُتل، وإن كان عليه الغرم غُرم، وإن لم يكن له مال كان عبداً للسلطان يبيعه. وإن لم تحرقه النار قيل للمدّعي عليه إنك مبطل قد أخذ خصمك النار، فيلزم ما كان يدّعي عليه. ومن جملة أحكام الهند أن من ذبح بقرة ذبح بها".