موقف النخبة الثقافية والسياسية الصربية: التوشّح بالكوفية يخفي إرسال الأسلحة إلى جيش الاحتلال!
- صربيا، بتاريخها الخاص وعلاقتها بحركة عدم الانحياز، وجدت نفسها في موقف يتطلب التوفيق بين مصالحها مع الفلسطينيين والإسرائيليين، معبرة عن إدانة للجرائم ضد الفلسطينيين ولكن مع الحفاظ على علاقات جيدة مع "إسرائيل".
- العلاقات الصربية-الإسرائيلية تطورت، خاصة في مجال الصناعات العسكرية، حيث صدرت صربيا أسلحة للجيش الإسرائيلي خلال الحرب على غزة، مما يعكس عمق التعاون بين البلدين ويجعل صربيا لاعباً مهماً في سوق الأسلحة العالمية.
في دول البلقان التي كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع "إسرائيل" عام 1967، واستعادتها بعد سقوط جدار برلين وتداعياته السياسية، وصولاً إلى الالتحاق بالاتحاد الأوروبي تدريجياً، تحرص الحكومات على التماهي مع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي منذ إدانة عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حركة حماس"، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتأييد "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بشنّ حرب الإبادة الشاملة ضدّ قطاع غزّة.
ومع انتشار صور الفظائع التي رافقت توغّل جيش الاحتلال الإسرائيلي ووصول عدد الضحايا إلى ثلاثين ألفاً معظمهم من النساء والأطفال، وتحوّل قادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة للمُطالبة بوقف إطلاق النار، انعكس هذا بطبيعة الحال على بعض قادة المنطقة. ومن ذلك نجد أن ألبين كورتي رئيس الحكومة في كوسوفو التي تُعتبر أوّل دولة أوروبية بنسبة مسلمين تعادل 95 في المئة، لم يُطالب بوقف إطلاق النار في غزّة إلّا بعد أن طالبت به نائبة الرئيس الأميركي، في الرابع من آذار/ مارس 2024. ومع ذلك لدينا في المنطقة مساحة تتّسع أو تضيق بين موقف الحكومات وموقف الشعوب لاعتبارات مختلفة بعضها يتعلّق بالتاريخ القريب وبعضها يتعلّق بالحاضر.
التوشّح بالكوفيّة الفلسطينيّة
في هذا السياق تُعتبر صربيا حالةً خاصة بسبب مكانة بلغراد التي شهدت أوّل قمّة لدُول "حركة عدم الانحياز" عام 1961، والعلاقة الخاصة التي ربطت تيتو وعبد الناصر، ومتغيّرات السياسة اللّاحقة في المنطقة بعد انهيار يوغسلافيا. في هذه الحالة كان على صربيا أن تُزاوج بين مصالحها بأن ترضي الطرفين معاً (الفلسطينيّين ومُحتلّيهم الإسرائليّين) مع الفارق بطبيعة الحال.
التحاقٌ بركب الاتحاد الأوروبي في تبنّي السردية الصهيونية
وهكذا اهتمّت الصحافة الصربية والبوسنوية باستقبال فويسلاف شيشل، زعيم "الحزب الراديكالي الصربي" و"الرئيس الروحي" للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، السفير الفلسطيني الجديد في بلغراد محمد النمورة، في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ليعبّر له عن "إدانة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بموافقة الولايات المتّحدة الأميركية منذ أكثر من شهر على الشعب الفلسطيني الساعي إلى الحرّية". وكان من اللّافت أنّ شيشل ظهَر خلال اللقاء متوشّحاً بالكوفيّة الفلسطينية، ولكنّه لم يكن الشخص المناسب لنقل مثل هذا الموقف الصربي إلى الفلسطينيّين، بسبب ماضيه في حرب البوسنة بين عامَي 1992 و1995 واتّهامه بجرائم حرب ضدّ البشناق هناك.
وكان ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وبعده مناسبةً لاهتمام الصحافة الصربية باستضافة النخبة الثقافية لتروي ما لديها عن "النزاع المزمن بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، ومناسبة أيضاً لبعض الحركات الدبلوماسية في بلغراد.
ومن ذلك كان الروائي ووزير الخارجية الصربي السابق فوك دراشكوفيتش، الذي كتب عن النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي من خلال ذكرياته عن زيارته الرسمية إلى "إسرائيل" عام 2006، أي بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين صربيا و"إسرائيل"، في مقال خاص بـ"جريدة داناس" البلغرادية، بتاريخ الرابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وقد ركّز في ذلك على ما سمعه من رئيس وزراء الاحتلال آنذاك شمعون بيريس، ونقله كأنه حقيقة تجعل المسؤولية على الفلسطينيّين والعرب. ففي هذا اللقاء قال له بيريز "إنّ الاسرائيليّين والفلسطينيّين من أب واحد، ولكن هذا النسب يؤجّج النزاعات أحياناً"، ولذلك قال له "من حسن الحظّ أنه لا توجد قرابة بين الصرب والألبان"، أي إنّ النزاع يُصبح حلّه أسهل. ولكنّ الأهم هُنا ما نقله دراشكوفيتش عن بيريس من أن الإسرائليّين تنازلوا للفلسطينيّين والعرب عن 80 في المئة من 'إسرائيل التوراتية' دون أن يفيد هذا بشيء!".
أكاذيب شمعون بيريز صارت مرجعاً للرّوائي فوك دراشكوفيتش!
وعلى ذكر النزاع الصربي- الألباني المذكور تناول سفير صربيا السابق في تل أبيب، سرتشكو جوريتش، علاقة صربيا بالجانبَين الفلسطيني والإسرئيلي في ضوء مصالحها. ففي اللقاء الذي أجرته معه "جريدة داناس" الصربية المعروفة، في العاشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، يقول السفير إن مصلحة صربيا في المقام الأول مع الجانب الإسرائيلي، في حين أن علاقتها بالجانب الفلسطيني هي في المقام الأدنى لأجل مصالح صربيا، وبالتحديد لمنع بعض الدول العربية من الاعتراف باستقلال كوسوفو!
شحنات أسلحة سرّية للجيش الإسرائيلي
مع أنّ الرئيس الصربي ألكسندر فوتيتش صرّح كغيره من رؤساء دول الاتحاد الأوروبي بـ"حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، إلّا أنه كشف عن مكالمة له مع نتنياهو، في السادس والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، اتّفقا فيها في خضمّ الحرب على غزّة حول "تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين"، وهو تاريخ مهمّ سيظهر علاقته بتطوّر الأحداث لاحقاً.
ففي الوقت الذي بدأت فيه القيادة العسكرية الإسرائيلية تشكو من تأخُّر إرسال بعض الشحنات من الأسلحة من الولايات المتّحدة وأوروبا (كما جاء في تقرير لشبكة "إيه بي سي" في السادس عشر من الشهر الجاري)، كشفت "الشبكة البلقانية للتقارير الاستقصائية" (بيرن) في تقرير مفاجىء عن قيام صربيا بتصدير شحنتَين على الأقل من الأسلحة إلى الجيش الإسرائيلي، وهو ما لم تنفِه الحكومة عندما نشرت الصحافة الصربية هذا التقرير ("داناس" في 13 آذار/ مارس 2024).
ويتبيّن من هذا التقرير المُفصَّل الذي نُشر أنّ بلغراد أرسلت إلى الجيش الإسرائيلي شحنتين كبيرتين من الأسلحة، كانت الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والثانية في شباط/ فبراير 2024 تفوق قيمتها مليون يورو. وربما يكون ما نُشر في "جريدة داناس" البلغرادية في اليوم التالي (13 آذار/ مارس الجاري) يُوحي بشيء، إذ إن الرئيس الصربي ألكسندر فوتيتش كشف فجأة عن تطوّر نوعي في إنتاج السلاح في بلاده يركّز على تصنيع "المسيّرات الانتحارية" بكمّيات كبيرة، وأنّ إنتاجها وتصديرها "سيبدأ بعد أسبوعين".
وتجدر الإشارة هُنا إلى أنّ صناعة الأسلحة في صربيا عرفت تطوُّراً نوعيّاً منذ 2012، مع استثمار رساميل عربية أثمرت إرسال الأسلحة سرّاً إلى مناطق الأزمات من سوريّة إلى ليبيا عبر شحنات جوّية كانت تمرّ عبر مقدونيا الشمالية واليونان (دون إعلام السلطات المحلّية عن حمولتها)، كما ظهر ذلك في الطائرة التي كانت تحمل 12 طناً من الأسلحة وتحطّمت فوق اليونان في طريقها إلى بنغلاديش في السابع عشر من تموز/ يوليو 2013.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري