"المجتمع البُشناقي في فلسطين".. مصائر متقاطعة بين الهجرة والشتات

13 سبتمبر 2023
جامع قيسارية الذي بناه البُشناق قبل تهجير العصابات الصهيونية لهم عام 1948 (Getty)
+ الخط -

"المجتمع البُشناقي في فلسطين: تاريخ واستمرارية" عنوان الندوة التي نظّمتها "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" عبر منصّة "زووم"، مساء الخميس الماضي، وقدّمها كلٌّ من سليم تماري ورنا عناني، وشاركت فيها مجموعة من الباحثين، بهدف إضاءة جوانب من هذا المجتمع الذي جاءت أولى عائلاته من البوسنة إلى الساحل الفلسطيني، في العام 1878 إثر "اتفاقية برلين" التي وُقّعت في العام نفسه، وسلّمت بموجبها الدولةُ العثمانية منطقة البوسنة، لتكون تحت سيطرة إمبراطورية النمسا والمجر. وكثير من العائلات البُشناقية استقرّ في بلدة قيسارية، وأُخرى تموضعت في بلدة يانون بقضاء نابلس. أمّا اليوم، وبعد كل هذه السنوات، يُعدُّ المجتمع البُشناقي جزءاً لا يتجزّأ من مكونات الشعب الفلسطيني، خاض معه رحلة النضال قبل وبعد نكبة 1948.


جيلٌ أوّل

بدأت الندوة بمداخلة من عمّان قدّمها الباحث عز الدين كتخدا، وحملت عنوان "إضاءات حول المجتمع البُشناقي في فلسطين والأردن". ولفت خلالها إلى أنّ الندوة تُشكّل تمهيداً لكتاب مرجعي تسعى "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" إلى إصداره، ويتناول قصة البشانقة في فلسطين والأردن. ثم انتقل إلى تبيان أنّ المهاجرين الأوائل من موستار إلى قيسارية لم يكتبوا عن رحلتهم تلك، وعن تهجيرهم من فلسطين لاحقاً، وبالتالي فإنّ ما يعتمد عليه الباحثون هو الرواية الشفوية التي حفظتها الأجيال.

اندمجوا بنسيج المجتمع الفلسطيني وكانوا جزءاً أصيلاً منه 

ووضّح كتخدا أنّ البشانقة استطاعوا شراء الأراضي في فلسطين، ومارسوا مهنة الزراعة بشكل رئيسي، أمّا اختيارهم لقيسارية فيعود لخصوبتها، وبسبب وجود مرفأ قديم يُمكن استخدامه في التجارة الخارجية. وشيئاً فشيئاً بدأ يتّضح تخطيط قيسارية العمراني الجديد، والشبيه بمدن وبلدات الهرسك، وسرعان ما تطوّرت من الناحية الإدارية. وظلّ الجيل الأول مُحافظاً على لغته السلافية، ونشأ مجتمعٌ منغلقٌ نسبيّاً من حيث الاختلاط والزواج من الجوار العربي، قبل أن يتغيّر الحال مع الأجيال اللاحقة.

كما أوضح الباحث في ورقته، الطريقة التي عُومل بها البشانقة، من قبل الاستعمار البريطاني ومن ثم الصهيونية الاستيطانية، الذين لم يُميّزوا بينهم وبين العرب على الإطلاق، ولا انتهجوا معهم ما انتهجوه عادةً مع الأقلّيات.، وبعد نكبة عام 1948 تم تهجير البُشناق من قيسارية بشكل نهائي حيث نزحوا إلى الدول العربية، وبذلك تحوّلت قيسارية من قرية تعجّ بالحياة إلى موقع أثري سياحي.


بين هجرتين

أمّا المداخلة الثانية، فكانت مقابلة مُصوّرة مع الطبيب عبد الأزل بُشناق بعنوان "بين موستار وسراييفو ورام الله: تذكرات من يوغسلافيا"، سرَد فيها أحاديث كانت تُروى في المجتمع البُشناقي حول الهجرة الأولى من مدينة موستار البوسنية، كما تطرّق إلى العلاقة التي نسجتها شخصيات بُشناقية (من بينها والده) مع محيطها العربي، لم تقتصر على فلسطين فقط، بل تعدّت ذلك لتشمل عموم سورية من الساحل إلى الداخل. 

ثم تناول بُشناق مأساة النكبة، وخسارات عائلته للكثير من البيّارات على يد العصابات الصهيونية، لتهاجر العائلة إلى طولكرم أولاً ومنها إلى رام الله. ولفتَ أيضاً إلى سهولة الاندماج الذي شهده الجيلان الثاني والثالث من المهاجرين في فلسطين والأردن. أمّا الجانب الأبرز لعلاقة البشانقة بفلسطين فكان بوصول القسم الثاني من البشانقة، خلال النكبة، للمشاركة في الدفاع عن البلاد، وكان من بينهم مئات المتطوّعين من الضبّاط والجنود البوسنيّين؛ حيث توزّع المتطوّعون بين القرى والمدن، ولا سيما في قرى الشمال.

استهدفت العصابات الصهيونية ممتلكاتهم وهجّرتهم عام النكبة

"حول الاستيطان والأصلانية والهجرة في الدراسات الفلسطينية" عنوان المداخلة الثالثة، التي قدّمها الباحث في مجال الأنثروبولوجيا وأستاذ القانون في "جامعة شيكاغو"، داريل لي. وينطلق لي من مقال عن تاريخ البشانقة الفلسطينيّين كتبته الباحثة اليوغسلافية نينا سيفروفيتش عام 1981، وتكمن أهميته في كونه يُؤسّس لفهم الأصالة ضمن سياقات الاستعمار الصهيوني الاستيطاني، والذي بدأت أولى موجاته في فترة مُقاربة لموجة الهجرة البوسنية، ولكن ما الذي جعل هؤلاء الأخيرِين (وهم أوروبيّون بالمناسبة) جُزءاً لا يتجزّأ من الشعب الفلسطيني الأصلي؟

وللإجابة عن هذا السؤال، يذهب لي إلى سُرعة اندماج البَشانقة في المجتمع، ومشاركتهم البارزة في كفاح الفلسطينيّين الوطني، كلّ هذا عزّز من مفهوم الأصلانية، وإنْ ساهمت فيه، بطبيعة الحال، بعضُ العوامل الثقافية والسياسية السابقة، إلّا أنّ هذا الاندماج ظلّ يتحرّك وفق سيروة اجتماعية ذات مراحل مُتعدّدة، تبني على بعضها البعض.


قيسارية وطناً

أما المداخلة الرابعة "نبذة عن تاريخ البُشناق في فلسطين" فقدّمها الباحث ماهر الشريف، الذي بدأ حديثه عن "مستوطنة قيسارية" التي أُقيمت عام 1977، على بُعد 37 كم جنوب حيفا المحتلّة، وهي المستوطنة الوحيدة التي لا تُديرها مؤسسات الاحتلال، بل جمعيّة خاصة يُسيطر عليها آل روتشيلد. قبل النكبة وكغيرها من الأراضي الفلسطينية، تمّت محاصرة قيسارية، وفقاً للشريف، من خلال المستوطنين الروس، وعصابات "البالماح" الإجرامية، التي تولّت غزوَ قيسارية عام 1948، والسَّطو على مُمتلكات أهلها، في واحدة من أُولى حملات التطهير العرقي التي شهدتها البلاد. 

ويلفت الشريف إلى أنّ الهجرات البوسنية الفردية إلى الشام سبقت الهجرات الرسمية الكُبرى، إلى جانب ما كان يحتويه الجيش العثماني من عناصر بوسنية، وربّما أشهرهم أحمد باشا والي عكّا، والمشهور بتصدّيه لجيش نابليون عام 1799. ثم أكّد الشريف في مداخلته ما ذهب إليه المشاركون، حول أسباب اختيار قيسارية كوطن للبُشناق، وآليات توزيع السلطنة العثمانية للعناصر الإثنيّة ضمن أراضيها. ومع الوقت أخذ البُشناق بالانتقال إلى مُدن الداخل الفلسطيني، سعياً وراء العِلم والتجارة والخدمات الأوفر، خاصة مع تنامي الحياة الحضرية في تلك المدن. 

للرواية الشفوية دورٌ أساسي في تأريخ هجرة البُشناق

كذلك عاد الشريف إلى توصيف المؤرّخ محمد م. الأرناؤوط لمشاركة البُشناق في حرب 1948 بـ"المسكوت عنه بحثياً"، فرغم محاربتهم على الجبهة العربية، وانضمامهم كخبراء عسكريّين ومتطوّعين بلغ عددهم بين 300 و500 متطوّع، ومشاركتهم في تدريب الجنود العرب، واستشهاد العديد منهم في معارك القسطل ويافا والمالكية، لكنّهم تحوّلوا إلى كتلة هامشية عقب النكبة.

وختم الباحث عدنان بُشناق الندوةَ بمداخلة حملت عنوان "إضاءات عن البشانقة في الأردن"، أشار فيها إلى أنّ أساس الهجرة الأولى تولَّد من شُعور لدى البشانقة بتهديد إمبراطورية النمسا والمجر للوجود الإسلامي في البلقان، وبالتالي لا يُمكن إغفال العامل الديني في القضية، وهذا يدفع إلى تساؤل آخر مرتبط به: هل كان القرار بترك البلاد قراراً صائباً وصحيحاً؟ خاصة أنّ وضعهم الاقتصادي كان مُريحاً، وأنّ الحياة في قيسارية لم تكن بالسهولة التي يُصوّرها البعض، من جرّاء انتشار المستنقعات والملاريا، الأمر الذي تطلّب عملاً شاقّاً لاستصلاح الأراضي. 

كما عرض الباحث لسلسلة من الأحداث التاريخية، لعب فيها العثمانيّون دوراً رئيسياً بدخول الإسلام إلى البلاد، ومن ثم المواجهة مع الممالك الصربية في البلقان. وهذه المواجهة لم تنقطع؛ إذ ظلّت تتحوّر من شكل إلى آخر، وبعضها جرى قبيل الهجرة الأولى للبُشناق من البوسنة، ومن ثم خلال القرن العشرين، والتقلّبات السياسية التي عجّ بها، وليس آخرها مذابح سربرنيتسا التي ارتكبها الصرب بحقّ البوسنيّين عام 1995.
 

المساهمون