استمع إلى الملخص
- قصة المسرحية: تروي حكاية صديقين في قبو بباريس، تعكس تحديات اللجوء وصعوبة التأقلم، مقتبسة من نص "المهاجران" لسلافومير مروجيك، بأسلوب ساخر وواقعي، مركزة على مرارة الابتعاد عن الوطن.
- الإبداع الفني والبساطة: اعتمدت المسرحية على بساطة الديكور والأزياء، مع أداء جسدي ونفسي مميز، واستخدمت رقصات وأغنيات فرنسية، موجهة رسالة هادئة ضد النظام القمعي.
"رجاءً. لا تغلقوا هواتفكم المحمولة. خُذوا صوراً كما يحلو لكم، وبإمكانكم نقل العرض عبر بثٍّ حيٍّ ومباشر على فيسبوك". هكذا بدأت مسرحية "اللاجئان" للأخوين ملص التي عُرضت على خشبة "الخيّام" في دمشق يوم السبت الماضي. العرض الذي قُدّم على مسارح باريس وبرلين وقرطاج والإسكندرية وصل أخيراً إلى العاصمة السورية، وافتتح بالفعل أوّلَ تجربة مسرحية في البلاد بعد سقوط نظام الأسد البائد.
ما إن نشر التوءمان عبر حسابهما الشخصي على "فيسبوك" مكان العرض وزمانه، حتى تقاطر العشرات من المتفرجين. جمهورٌ من مسرحيّين ونقّاد ومهتمين، وآخرين من شباب وشابّات حملوا علم الاستقلال وانضموا إلى الأُمسية الدمشقية الاستثنائية، فلأوّل مرّة يعطي المسرح شارة البدء بحياة جديدة لكل السوريّين. مذاق آخر للحرية لم يختبره أهل المسرح منذ سنوات طويلة.
يروي "اللاجئان" حكاية صديقين يتقاسمان السكن في أحد الأقبية الباريسية. أحمد بنظّارتيه الطبّيتين تبدو عليه الخبرة في التعامل مع الحياة، وهو يتقن اللغة الفرنسية وارتياد المترو ومغازلة النساء، أمّا محمد فيبدو شابّاً مفعماً بالحيوية والطيش، لكنه لم يستطع التكيّف مع حياة اللجوء، كما أنّه لا يتقن لغة بلزاك. لا يبدو الصراع هنا تقليدياً، فالعرض المُقتبس عن نصّ "المهاجران" للكاتب البولوني سلافومير مروجيك، أعاد الأخوان ملص كتابته وفقاً للظروف التي عايشاها في سنوات المنفى الطويلة.
حاول بطلا العرض أن يسوقا الأحداث عبر ما يشبه اليوميات، فبعيداً عن المَسرَحة، ووفق أسلوبٍ واقعيٍّ صِرف، نقلا هواجس اللاجئ السوري، وجسّدا صعوبة التأقلم مع المجتمعات الأوروبية. "كلّ شيء صعب في فرنسا". عبارة تكرّرت في العرض أكثر من مرّة لتأكيد مرارة الابتعاد عن الوطن الأُمّ. فالحبُّ والموت وحتّى الانتحار، كلّها أمورٌ صعبة التحقّق. مفارقات عديدة رصدها "اللاجئان" بأسلوب ساخر استطاع أن يحقق لحظات تواصل عالية مع الجمهور الدمشقي.
بساطة تخلّلتها لحظات من البوح لم تنزلق إلى الميلودراميّة
لم يكترث الأخوان ملص للشرط التقني المتواضع في "مسرح الخيّام"، بل اعتمدا على ما يشبه إضاءة عامّة طوال زمن العرض (خمسون دقيقة). من هنا كان الممثّل بحضوره الجسدي والنفسي العنصرَ الرئيس لاستكمال عناصر هذه اللعبة. حتى الأزياء بدت عادية إلّا في لمحات منها لإعطاء التمايز بين الشخصيّتين، فيما اتّكأ مُخرجا العرض على قطع ديكور بسيطة تمثّلت في كرسيّين وطاولة صغيرة.
اللافت في "اللاجئان" هو التعويل على رقصات رافقتها أُغنيات فرنسية لجاك بريل وأُخرى للمطرب الشعبي دياب مشهور. كان الممثّلان يتحكّمان فيها من خلال "لابتوب" صغير موضوع على جانب الخشبة. هذه البساطة تخلّلتها لحظات من البوح لم تنزلق إلى الميلودراميّة، فحين يتذكّر أحد الصديقين والدته في دمشق تتوارى الطرافة لصالح اعترافات مؤثّرة، فالشخصية لا تعيش في حيٍّ دمشقيٍّ. إنّها تحيا في قبو تحت الأرض في العاصمة الفرنسية.
مكالمة عاجلة تخبر الصديقين أنَّ الإعانات المالية سوف تتوقّف، وعليهما إجراء الاتصالات اللازمة لمنع ذلك فوراً. مدينة الشمس لا يمكن مشاهدة شروق الشمس فيها. اللياقة الفرنسية تجعل الصديقين يعيشان روتين حياة مملّة ومنعزلة. كياسة الفرنسيّين ولباقتهم اليومية في ارتياد المقاهي والحانات وشراء الخبز تزيد الطين بِلّة. الذهاب والإياب عبر شبكة المترو تُفاقم من وحشة المتاهة الفرنسية وبرودتها، ففي الوقت الذي تقفز أحياء دمشق وأصوات مآذنها إلى الذاكرة، يعود الصديقان إلى صُور إخوتهم في السجون والمعتقلات الأسدية.
اللاجئ ليس متطرّفاً ولا مجرماً ولا إرهابياً. يمرّر العرض مقولته بهدوء ومن دون أن تكون هذه المقولة موقفاً من أحد، لكن "اللاجئان" يوجّه في الوقت ذاته سبّابة الاتهام إلى النظام القمعي الذي شرّد ملايين السوريين في الخارج والداخل، في حين قضى الآلاف منهم طعاماً لأسماك البحار. مأساة لا يدرجها العرض من باب الاستجداء وإثارة الشفقة، بالقدر الذي يصرّ فيه على فضج الجريمة والمجرم الدموي، فلا يغيب الجسد عن الحضور، إلا أن الحركة هُنا كانت نابعة من تبرير الفعل وردات الفعل على مساحة شبه فارغة.
لقد آثر التوءمان إكمال مسيرتهما في "مسرح الغرفة". التجربة التي أطلقاها من منزلهما في دمشق عام 2009، وتلتها العديد من التجارب مثل: "الثورة غداً تؤجّل إلى البارحة" و"ميلودراما". غيابهما الطويل اكتمل هذه المرة بعودتهما إلى الديار، وبتدشين مرحلة جديدة للريبرتوار السوري، وهي نقطة تسجّل للشقيقين في أول عرض يقدّم في سورية الجديدة.