للمواجهة بين الشعر والفنون في مرآة الحقيقة تاريخٌ قديم يتجاوز الثقافة العربيَّة - الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة. في العصور القديمة، على سبيل المثال لا الحصر، اتَّهم الفكر السقراطيّ - الأفلاطونيّ الفنَّانَ بالابتعاد درجتين عن الحقيقة في عالَم المُثُل؛ فيما تبنَّى آخرون حلّاً وسطاً، وطلبوا أن يكون الشّعر ذا خلفيَّة صادقة، وسمحوا له باللجوء إلى الخيال.
كانت هناك، أيضاً، مواقف متطرِّفة، كما هي الحال مع فيلو الإسكندريّ، الذي أدان الرسم والنحت، قائلاً إنَّ النبيَّ موسى يعدُّ أنَّ هذه الفنون تفسد الحقيقة بالباطل. المعلّم الأول، أرسطو، بدوره، أعطى بُعداً جديداً لهذه المسألة، عادّاً الفنَّ أنَّه تمثيل يقوم على إعادة إنتاج الواقع، ليفصل بذلك، ضمنيّاً، مجال الفنّ عن الحقيقة، ويدعو، في الوقت نفسه، إلى الدقَّة كمبدأ أساس للفعاليَّة الفنيَّة بدلاً من الأخلاق.
لم تكن المشكلة في الثقافة العربيَّة أقلَّ تعقيداً، حيث كانت نقطة التحوّل الأولى مع الوحي القرآنيِّ الذي نزل وصف الشعراء بأنَّهم يقولون ما لا يفعلون. ومهما يكن من أمر، سرعان ما استعاد الشعر مكانته، وقد اتَّخذ، في هذا الصدد، العديد من الكُتَّاب موقفاً توفيقيّاً، وفصلوا على نحو واضح الخطابَ الشعريَّ من الخطابين الدينيّ والأخلاقيّ، كما فعل كلٌّ من قدامة بن جعفر في المشرق، وحازم القرطاجنيّ في الأندلس. فيما واصلت قطاعات أخرى اعتراضاتها الأخلاقيَّة على الشعر، كما هي الحال مع ابن حزم وابن رشد.
لا يترك ابن رشد هامشاً كبيراً لخيال الشاعر
وبالنسبة إلى ابن رشد، لا تقوم وظيفة الشّعر على محاكاة الأمور المخترعة الكاذبة، بل على الموجودة أو المقنعة. فالأمثال والقصص أمور مخترعة مثل كتاب "كليلة ودمنة"، أمَّا الشعر فمهمَّته تتمثل بمحاكاة الأشياء ونقلها إلى خيال المتلقّي، وتالياً، على الشاعر أن يتكلَّم في الأمور الموجودة، أو ممكنة الوجود، وهذا أكثر فاعليَّة: "فإذا كانت الأفعال ممكنة، كان الإقناع فيها أكثر وقوعاً، أعني التصديق الشعريّ، الذي يحرِّك النفس إلى الطلب أو الهرب". وهذا، في رأي ابن رشد، طبيعيٌّ في الأمم الطبيعيَّة، حسب تعبيره.
وانطلاقاً من معرفته بالشّعر العربيِّ، يقدِّم ابن رشد أمثلة لشعراء يتمسَّكون بالواقع، كذلك فإنَّه ينتقد بعضهم لعدم انتقالهم إلى الفضيلة. مع ذلك، سيسمح ابن رشد، بعد إعادة تفسير فكرة أرسطو، المتمثِّلة باستخدام صور وعناصر خرافيَّة في الدراما، باستخدام عناصر الإعجاب في مواضع محدَّدة، لكن من دون أن يتحوَّل الأمر إلى قاعدة. وهكذا، يتحقَّق مثال التوافق مع الحقيقة عبر الاستخدام المناسب للمحاكاة المباشرة وغير المباشرة، وفقاً لمتطلَّبات المنطق دائماً، وعبر الفسح في المجال أمام بعض عناصر الإعجاب المحدَّدة والمضبوطة.
كما نلاحظ، لا يترك ابن رشد هامشاً كبيراً لخيال الشاعر، بل على العكس من ذلك، يعرض الأكاذيب المنسوبة إلى الشعراء، ولا يتردَّد في إصدار الأحكام المفاجئة عليهم. فابن المعتزّ، بالنسبة إليه، حين يتحدّث عن القمر ويصفه، على سبيل المثال، في قوله: "انظرْ إليه كزورقٍ من فضَّةٍ/ قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ"، يتحدّث عن أمرٍ غير ممكن، بل ممتنع؛ أو عندما يذكر أحد الشعراء المحدثين الأندلسيين في وصفه للحصان بقوله: "وعلى أذنيه أذن ثالثٌ/ من سنان السمهريِّ الأزرق"، فهو يعدّ ذلك بُعداً عن الواقع، وتحريفاً للمحاكاة. كما ينتقد التشبيهات الشهيرة للعرب بين النساء والظباء، التي يعدُّها تعسفيَّة، كي لا نذكر الأعذار الكاذبة أو حتَّى تزيين الهزيمة والفرار، ليختتم قائلاً: "يا معشرَ العرب! لقد حسَّنتم كلَّ شيء حتَّى الفرار".
* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا