القراءة والنزعات المادية

23 ابريل 2021
"فتاة تقرأ" لـ عثمان حمدي بك
+ الخط -

من حُسن حظّ البشريّة أنّ القراءة ليست حكرًا على طبقة اجتماعيّة دون سواها، ولا على مرحلة عُمريّة دون أخرى، فهي مطلوبةٌ من الكلِّ ومُتاحةٌ للجلِّ. ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْها بالعين، فالأذن قد تقرأ أحيانًا، ذلك أنّ الكتابة لا تَجُبُّ الشّفاهة. لِقرونٍ خلت، كانت الأذنُ نافذةَ الإنسان على ساحة المعرفة، والذاكرةُ مستودعَه الأمين. وإلى تَيْنِكَ يعود الفضل في وصول نفائس السّلَف إلى خزائن الخلَف.

وحتى مع ظهور الكتابة وازدهارها، لم تفقد الشّفاهة سحرَها. فمن الإرث الإغريقي الطائل، يبرز المُعَلِّم الأكبر الذي لم يكتب قطّ، فقد كان تلامذته يأخذون عنه بمسامعهم. ومع أنّه لم يسفح نطفةَ حبر في حياته، فقد تَخَلَّدَ أبًا لنسلٍ من الأفذاذ. باللّسان علّم سقراط، لا بالقلم. لذلك، حين قضت أثينا بإعدامه، اصطَفتِ السُّمَّ دون غيره، فكان كأس الشّوكران قَصاصًا للشّفتين منه والّلسانْ.

تاريخ الأدب العربي يُسعفنا، في كلّ مدّة وكل صَقْعٍ، بالأمثلة من كلّ نوعٍ. ففي تلك الجاهليّة التي تُذكّر على الفور بالشّفاهة، كان يهيمُ في كلِّ وادٍ الملكُ والصّعلوك، العبدُ والسيّد، ابن الوبر وابن المدر، ومَن سئم تكاليف الحياة ومَن لم يعش منها سوى ما سمحت به المكيدة وظُلم ذوي القربى... ولعلّ مراجعةً سريعة لأصحاب المعلّقات تؤكّد ما نذهب إليه من تنوّعٍ أمام مَسِّ الشعر.

من حُسن حظّ البشريّة أنّ القراءة ليست حكراً على طبقة

وقد ظلّ الأمر كذلك في القرون التي تلت، على امتداد الأرض التي دانت، فكان الأدب يتخلّقُ في القصور، ونسمع عن الخليفة الشّاعر، والأمير الشّاعر، والوزير الشّاعر... مثلما كان يفعل في دكاكين العامّة وورشاتهم، حيث أبدع أسلافٌ لهم بيننا الآن أشباهٌ في كلِّ رَبْعٍ. وسيّان الحاضرُ والأمس الغابر.

فمن المبدعين مَن أعلن عن نفسه بقوّة منذ اليَفاع، ومنهم من فعل حتى الهزيع الأخير من العمر، ومنهم من أسفر عنه مخمل الشّرفات، ومنهم من تفتّق عنه خيش الأقبية... وهُمْ، على اختلاف مشاربهم، ومآكلهم أيضًا، لا ينحدرون بالضّرورة من المعاهد والجامعات. فمنهم الحدّاد، ومنهم البنّاء، ومنهم الحلّاق، ومنهم الإسكافيّ، ومنهم العتّال، ومنهم الصّائغ، ومنهم الأمّيّ، ومنهم العصاميّ، ومنهم البدو، ومنهم الحضر... بل ومنهم مَن عاش حياته متشبّثًا بقرون الجبال، ومع ذلك، انسابت إلينا قصائدُه الحارّة مخفورةً بالثلج الزّلال.

يُحسب للأوائل إصرارُهم الجميل على القراءة، مع أنّ الطُّرق إليها لم تكن مُعبّدةً كما بعد شُيوع الطّباعة، ولا سَيّارةً مثلما هي الآن. ويُحسب لهم أنّهم ضربوا في أراضٍ بِكْرٍ من الكتابة، فحرثوها بسِكَكٍ من ريشٍ أو قصب، وسقوْها بأحْبار من صمغٍ وسُخام.

وإنّه لَمِنَ المدهش حقًّا ملاحظةُ أنّ الكثير من أعلام الأدب والفكر، في غير مكان وغير زمان، قد رحلوا عن سِنٍّ مبكّرة. فبعضهم رحل دون الثلاثين، كطرفة بن العبد وجون كيتس ولوتريامون والشّابّي... وبعضهم فعل وهو دون الأربعين، كأبي تمام وابن المقفع ورامبو والهمذاني والسّياب... وعبورهم السّريع لم يمنع من أن يكون لخطواتهم الأثرُ الذي يزداد عمقًا بمرور الزمن.

أمّا مَن بلغ منهم الخمسين، فقد كان يُعتبر شيخًا. ولعلّ أحد أشهر هؤلاء هو الشيخ ابن سينا، الذي رحل عن نَيِّفٍ وخمسين حَوْلًا، تاركًا للعالَم إرثًا من نحو مائتيْ كتاب في أكثر من باب، أحدها ــ وهو "القانون في الطّبّ" ــ ظلّ المرجعَ الأساس في الغرب لمدّة سبعة قرون. ولنا أن نتخيّل كم مكتبةً قرأ هذا الذي ألَّف وحده مكتبة.

لا عجب أن تتلخّص المدرسة، من بابها لمحرابها، في القراءة

موليير، الذي تُعرف الفرنسية باسمه، وشكسبير الذي تقترن به الإنكليزية، والمتنبّي، الذي لولا القرآن، لَنُسبت إليه العربية، كلّهم رحلوا عن خمسين عامًا أو يزيد قليلًا.

وإنّه لَمِن المُحيِّر أيضًا أن يُعمِّر الواحد منهم فتبدو حياتُه قصيرةً جدًّا. فالجاحظ، على سبيل التّبجيل، وهو سيّد النثر العربي في كلّ العصور، عاش أكثر من تسعين عامًا ألَّف خلالها من الكتب ما يحتاج في تأليفه إلى عشر حيوات، واحدة لامتلاك ذلك الأسلوب الفريد وتلك الثقافة الموسوعيّة، وأخرى لمخالطة العامّة من بُخلاء وعُرجان وبُرصان وسودان وبيضان، وثالثة لمراقبة الحيوان وتدوين أدقّ التفاصيل عنه، ورابعة لرصد المحاسن والأضداد والأخلاق... وعاشرة، طبعًا، لتحبير ذلك العدد الهائل من الكتب الذي جاء بعضها في أجزاء كثيرة.

وبالقفز إلى زمان النّاس هذا، نجد أنّه قبل عقود قليلة فقط، كان الصّبيّ يلتحق بالكتّاب فيأخذ الّلوحَ بقوّة، فإذا غادره، فإلى المدرسة ليأخذ بالقوّة مرّة أخرى ذلك الكتاب الجليل الذي يحمل غلافه أمرًا إلهيًّا: اِقْرَأْ. فلا عجب أن تكون المدرسة، من الباب إلى المحراب، تتلخّصُ في القراءة. فحتى الآن ما زال الواحد من ذلك الجيل يسأل ابنه بعد العودة من المدرسة ماذا قرأ اليوم، ويسأل زميله في العمل أين يقرأ أبناؤه. أمّا الأولاد، فكم يفرحون ليلة العطلة لأنّهم غدًا سيرتاحون من القراءة.

القراءة، إذاً، هي الهدف. أمّا الكتابة فذريعتها فحسب. لذلك، كانت المدارس، حتى عهد قريب، تضيق عن نفسها فيرحب بها كلّ مكان، إذ كان النّاس، من مختلف الأعمار والطّبقات الاجتماعية، يقرأون الكتب والجرائد والمجلّات في المقاهي والخزانات العامّة والحدائق والقطارات... وكان شائعًا اقتراض الكتب وقرضها. ولفرط القرّاء، كان باعة الكتب المستعملة أعلامًا في مدنهم، بما يوفّرون من ضالّة لكلّ باحث.

لقد كانت القراءة الهدفَ الأسمى للدراسة والعنوان الأبرز لها. ولعلّه من باب الامتنان بات الواحدُ من أبناء ذلك الجيل يكتب الكتابَ ويسمّيه قراءةً. فكم على رفوف المكتبات الآن من "قراءات نقدية".

لأسباب يعلمها الجميع، تراجعت المدرسة، هنا والآن، بشكل مخيف، وتراجعت معها القراءة، لا كدراسةٍ فحسب، بل كشغفٍ أيضًا. فصار ما صار ممّا نسمعه عن تدنّي مبيعات الكتب والمجلّات والجرائد، وما يُنشر عن معدّل القراءة المخجِل، فيما باتت أرقام المشاهدات تفضح تحوُّلنا من مجتمع قارئ إلى مجتمع متفرِّج. وشتّان ما بين سطح الشاشة وعمق الكتاب.

ثمة ذريعتان يتمُّ الدّفع بهما كلّما أُثيرت مسألة العزوف عن القراءة: غلاء الكتب وضيق الوقت. أمّا غلاء الكتب، فمردودٌ عليه، إذ بإمكان المرء أن يغوص من سطح شاشته الذكية إلى أعماق آلاف الكتب، ويُحمِّل ما شاء منها بمجرّد فتح هذا الرّابط أو ذاك. وقد كنّا سمعنا بالمُفلس الذي سام التي هزلت، لكنّنا لم نسمع بعد بالمفلس الذي لا يستطيع حتى ما هو مجّاني. وأمّا ضيق الوقت فذريعةٌ، لَعَمْري، مُضحكةٌ، خصوصًا في بلدان أبدع سكّانُها في إنتاج أمثال شعبيّة غايةً في تبخيس الزمن.

ومع ذلك، سأسوق بعض الأمثلة والوقائع درءًا للذرائع التي قد يتمّ الدفع بها في القادم من العزوف. فهذا ماركوس أوريليوس، حكمَ الإمبراطورية الرومانية لعشرين عامًا خلال القرن الثاني بعد الميلاد. واجه تحالف الموت عبر كلّ العصور: الحرب والوباء والمجاعة. أمّا الحرب، فخاض أكثر من واحدة على حدود البلاد. وأمّا الوباء، فالطّاعون، عاد به الجيش من الشرق. 
وأمّا المجاعة، فإثر الفيضانات التي أتت ذاتَ عامٍ على المحاصيل، فاضطرّ معها إلى بيع نفائس القصر لتدبير الأمر. وكلّ هذا وغيره لا يساوي شيئًا في تاريخ الرّجل مقارنةً مع كتابه الخالد، "التأمّلات". وهو الكتاب الذي ينِمُّ عن ثقافة صاحبه الواسعة وإلمامه الكبير بالفلسفات السّابقة على عصره. فكيف وجد ماركوس أوريليوس الوقت لزخم الثقافة وعمق الكتابة في ظلّ ما عاشه؟

وهذا وارين بافيت، صاحب إمبراطوريةٍ من نوع آخر، يقرأ بمعدّل مائتيْ صفحة في اليوم، وأصدر أكثر من كتاب مرجعيّ حول إدارة الأعمال وتربية الأموال، ولم يُنقل عنه أبدًا تذمّره من ضيق الوقت، هو الذي وقتُه فعلًا من ذهب، فالرّجل يعي جيّدًا أنّ القراءة دونها أنفَس المعادن.

وهذا بيل غيتس، الأغنى عن التعريف، يقرأ ويُؤلِّف الكتب هو الآخر، بل ويجد الوقت للوقوف في الطابور لاقتناء وجباته. وذات مرّة نشر ملخّصات لخمسة كتب ينصح بقراءتها خلال العطلة الصيفية. ومَن ينصح بخمسة كتب، لا بدّ أنه قرأ عشرات غيرها.

أمّا أثرياؤنا، فأين هم مِن هذا وذاك؟ ومع ذلك، فهُم، على العموم، لا يقرأون، فأحرى أن يُؤلّفوا. فلو كانوا يفعلون، لكان قد ظهر عليهم أثر نعمة القراءة كما تظهر عليهم غيره من الآثار.

فحين كان العامّة يشترون الكتب المستعملة، فيلمسون دفء آلاف الأصابع التي تداولتها قبلهم، كان الخاصّة، ومَن في حكمهم، يقتنون الموسوعات الفاخرة ليعرضوها في واجهة الصّالون كجزء من الرِّياش. أمّا وقد بات الوقت غير الوقت، فإنّ بعضهم أضحى يُحَلِّي حسابه بمقتطفات برّاقة، دليلًا على العمق، مثلما يُحلّي معصمه بساعة نفيسة، دليلًا على الثراء.

علاقة أثريائنا بالثقافة تلخّصها مناظرة عبد الله العروي ونور الدين عيّوش، وكيف كان الأول يتحدّث بآلاف الكتب التي يحمل في عقله، فيما كان الثاني يتكلّم عن الكتب المركونة في حقيبة سيارته.

أمّا سؤال: مِنْ أين لك هذا؟ الذي قد يُطرح على هذا المترف أو ذاك، فلا محلّ له من الطّرح على رجال الفكر والثقافة.
وبعيدًا عن هؤلاء، سأختم بواقعةٍ من تجربتي الشخصيّة، لعّلها تلخّص الكثير ممّا كان.

ففي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وبينما أنا عائد إلى بيتي ومعي ضيفٌ عزيز، رأيت عربة بطّيخ، وقد كان في مستهلّ ظهوره، ففّكرت في إكرام صاحبي بشراء واحدة. لكن، ما إن نطق البائع ثمنها حتى جرّني ضيفي ليبعدني، ولمّا سألته لماذا؟ ردّ عليّ مستغربًا: أتشتري بطيخةً بثمن "النّزعات المادّية"؟

كان صديقي يقصد كتاب حسين مروّة، ذائع الصيت وقتها، قبل أن تتغلغل النزعات المادية كالعُثّ في نسيج المجتمع، وتأتي على السّداة منه، تاركةً لُحْمته للتّعفُّن البطيء.


* شاعر وكاتب من المغرب

المساهمون