الفنّ تحت وابل المتلقي

24 ابريل 2023
"الكفاح والصمت"، للفنان العراقي راكان دبدوب (1974)
+ الخط -

يُشير العنوان إلى مقالٍ حربي، وهذه استعارة لا تخلو ممَّا أودّ قوله. وأستخدمها لأقول إنَّ الفنّ، المقولة التي يدّعي الإنسان أنَّه جاء بها إلى المعمورة، يتعرَّض إلى إحدى الجولات الخاسرة أمام جمهوره. الفنّ موجود قبل تنظير أرسطو له، منذ رسم الإنسان على الجدران الداخلية للكهف رحلات الصيد التي قام بها خارج الكهف. وممَّا قدّمته الأزمنة الحديثة للفنّ عدا التقنية؛ اتّساع الجمهور.
 
سبب الخسارة هذه المرّة، بعيداً عن رداءة أو جودة المادّة الفنّية، التي هي دراما تلفزيونية سورية. هو الجمهور. وأيضاً لا لرداءة ذوق المتلقّين، ولا لضعفٍ في ثقافتهم، ولا لأنَّ المقال يبحث عن عيب في المتلقّي بأي صورة. فهذا غير وارد. لكن، لأنَّ الجمهور الذي يُشاهد دراما عنه، يبحث في الدراما عن العدالة التي لم يجدها في الواقع. ويريد من الفنّ أن ينصف ألمه بالطريقة التي يراها هو، بعد أن خسر فرصته بـ العدالة الواقعية. وهذه الآمال التي تعود بنا إلى الميثولوجيا عندما كان الفنّان نصفَ إله، آمالٌ غير واقعية. قصارى جهد الفنان اليوم أن يفكّك الواقع، ويُعيد بناءه وفق تصوّرات الفنّ التي قد تلتقي مع الواقع، وقد تفترق عنه.

لا قيمة للقول في الدراما، طالما أنّ رأس المال يقف وراءها

إذاً، لا مناص من الاعتراف، بأنَّ الفنان لم يعد نصف إله؛ بل هو، في أفضل حالاته، عامل مجتهد يجلس وراء مكتب مثل خلق الله، ويعمل في الفضاء المشترك مع باقي البشر. إنّه ليس أكثر من ذلك، سِوى لربما بإلهامه الذي يتأتَّى من عمله. لكن عند الحديث عن الدراما التي هي في أوطاننا؛ صناعة السلطة، لا الأفراد، والحديث عن منظومة تصنع الدراما، لا عن صنّاعها، فمَن يعمل بالدراما ضمن منظومة أشمل منه، عرضة لأن يصير أداةً. وذلك ما إنْ يركن إلى الأنماط الرائجة/ الرابحة في السوق عن المجتمع/ العينة التي يريد التأليف عنها. ولربما يصير أداة في التنميط التي تخدم جهاز السلطة، أو أداة في التشويه والتزوير، أو أداة في تزييف الوعي. وليس من المبالغة القول، إنَّ الدراما التلفزيونية في أوطاننا أشبه بالسلاح.
 
أصحاب القرار يعرفون ذلك، أكثر ممّا يعرفه العاملون بها أو المشاهدون. لذلك، اختراق الدراما من قوى فاعلة وحقيقية أمرٌ صعب، ويشبه الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة. فهي صناعة، بالحالة المثالية، يقف وراءها رأس مال، وتنتهي إلى رأس مال. حجم القول فيها، وطبيعته، بلا قيمة تذكر خارج الربح. فكيف بالحال، والمطلوب في أوطان كأوطاننا أن توجّه الدراما ضدَّ الوعي الذي يريد التغيير، ويتوق إليه ويحتاجه.
 
إذاً، بعد الاعتراف بأنَّ الفنان لم يعد نصف إله، لم يعد حكيماً، وبسبب ظروف الصناعة الدرامية التي قد يحكمها الولاء لا القيمة فقط. لربما لا يعود مطلوباً في الأساس من الفنان أن يكون فناناً. المتلقّي أعزل أمام التلفاز. أساساً في الواقع، المتلقّي متغرّب عن القراءة. الكتب، إن ما لم تكن ممنوعة، لم تعد بمقدوره.
 
ربما تنقل الدراما السورية المسألة التي يشكو منها الفنّ السوري بصورة عامة أمام ثقل الواقع وانغلاقه، إلى جمهور أوسع. فمطلوب من الفنّ أن يحكي، أن يعيد تأليف مأساة الموت والهزيمة. وهذه ليست حكاية تلفزيونية ضمن ظروف صناعة الدراما. لذلك، ليس لدى الجمهور إلا أن يلقي بوابل سخطه على أنصاف الآلهة، لأنَّ ألمه دراما حدثت بالفعل في الواقع، ولمرّة واحدة. والفنان، نصف الإله، مشغول بشرط المتعة التي يريدها المتلقّي والمنتج، لا العدالة التي يريدها ويطلبها ويتحقّق بها الموضوع. 


* روائي من سورية

المساهمون