الغزال في بلاد الشمال.. حين يختلط الأدب بأخبار الرحلة

18 ديسمبر 2021
رسم لمرفأ كوبنهاغن في القرن الثامن عشر (Getty)
+ الخط -

تعد رحلة الشاعر يحيى بن الحكم البكري الأندلسي (770 ـ 864) إلى الدنمارك في العام 845، واحدة من أقدم الرحلات الدبلوماسية العربية التي وصلت إلينا نتف من أخبارها، وهي الرحلة الثانية لهذا الدبلوماسي الأندلسي المعروف بلقب الغزال، نظراً لجمال صورته كما يخبرنا بذلك المؤرخون الذين تناولوا رحلاته.

والغزال شاعر مرهف، وعلى معرفة بعدد من اللغات كما يبدو، وكان أمير قرطبة عبد الرحمن الثاني قد وجهه إلى بلاد الشمال، وتحديداً إلى غوتلاند، لمفاوضة النورمان الذين أغاروا قبل ذلك بقليل في العام 844 على الأندلس ونهبوا إشبيلية. وكان الغزال قد زار قبل ذلك سنوات مدينة القسطنطينية في سفارة شكلت رداً على سفارة للإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس، عرض فيها إقامة علاقات مع أمويي الأندلس، رداً على التهديدات التي كان يواجهها من جانب العباسيين، وخصوصاً بعد معركة عمورية الدامية التي شكلت أكبر هزيمة للقسطنطينية، بعد موجة الفتوح الأولى في عهدي معاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان.

ومن المؤسف أن أخبار هاتين الرحلتين لم تصل إلينا كاملة، بل نقلها مؤرخو الأندلس والمغرب بشكل مختصر، ولغايات أدبية، وليس جغرافية، حيث كان تركيزهم على شعر الغزال، وليس على الرحلة بحد ذاتها، وما تضمنته من أوصاف بلدانية وجغرافية. حيث حفظ لنا أخبار السفارة الأولى إلى القسطنطينية المؤرخ الأندلسي ابن دحية الكلبي، أما السفارة الثانية فنقلها لنا علَّامة المغرب الأوسط أحمد المقري التلمساني.

وبعد أن ساد اعتقاد بأن هذين المصدرين هما الوحيدان عن رحلتي الغزال، بينت دراسات حديثة أن ثمة مؤشرات حولهما لدى مؤلفين سابقين، كما يذكر ذلك المستشرق الروسي الشهير أغناتي كراتشكوفسكي. ولكن، وبسبب الغاية الأدبية التي تقف وراء حفظ هاتين الرحلتين، اعتراهما الكثير من الاضطراب والتشوش، وهو ما دعا بعض المستشرقين للتشكيك بوقوعهما، أو بإحداهما، وتحديداً الرحلة إلى الشمال، ولكن عدداً من علماء النرويج أكدوا في دراسات جدية أن شخصية الملك المذكور في الرحلة حقيقية وأثبتوا اسمه.


رسول ملك الشمال

يقول المقري إنه "لما وفد على السلطان عبد الرحمن رسل ملك المجوس تطلب الصلح، بعد خروجهم من إشبيلية، وإيقاعهم بجهاتها ثم هزيمتهم بها، وقتل قائد الأسطول فيها، رأى أن يراجعهم بقبول ذلك، فأمر الغزال أن يمشي في رسالته مع رسل ملكهم، لما كان الغزال عليه من حدّة الخاطر، وبديهة الرأي، وحسن الجواب والنجدة والإقدام، والدخول والخروج من كل باب، وصحبتُه يحيى بن حبيب".

وتسمي المصادر العربية سكان الشمال الأوروبي بالمجوس، كونهم وثنيين، ولديهم طقوس متعلقة بالنار، وليس بالضرورة أن يكونوا من أتباع العقيدة الزرادشتية التي كانت معروفة في إيران، بل هو تعميم من كتاب ذلك الوقت يشمل ديانات وثنية كثيرة.

ويضيف المقري القول إن الغزال ورفيقه بدأ سفرهما من ميناء مدينة شِلب الأندلسية، وهي المعروفة حالياً باسم سيلفش جنوبي البرتغال، وقد بني لهما مركب حسن قوي يصلح لرحلتي الذهاب والإياب، مع كامل معداته وطاقمه، وكان هدف الرحلة الرد على رسالة ملك الشماليين (المجوس)، برسالة جوابية، وحمل هدايا إليه، كرد على الهدايا التي أرسلها لعبد الرحمن الثاني. ويقول: "ومشى رسول ملكهم في مركبهم الذي جاؤوا فيه مع مركب الغزال". ويضيف أنهم، حين أصبحوا بمحاذاة الطرف الأعظم الداخل في البحر، والذي هو حدّ الأندلس في آخر الغرب، من جهة الجبل المعروف باسم بلوبة، والمقصود جبل بلبو قرب الحدود البرتغالية الفرنسية، هاج عليهم البحر، وعصفت بهم ريح شديدة، خلدها الشاعر الغزال بالأبيات التالية:

قال لي يحيى وصرنا بين موج كالجبال
وتولّتنا رياح من دبور وشمال
شقّت القلعين وانبتّت عُرا تلك الحبال
وتمطّى ملك الموت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأى العين حالاً بعد حال
لم يكن للقوم فينا يا رفيقي رأس مال


وصف جزيرة غوتلاند

وقد كتبت النجاة للغزال وسفينته، وسلم من هول تلك البحار، وركوب الأخطار؛ كما يقول المقري، ووصل إلى أول بلاد (المجوس)، إلى جزيرة من جزائرها، فأقام وصحبه فيها أياماً أصلحوا فيها مراكبهم، واستجموا شطراً من الوقت. ويقول: "تقدم مركب المجوس إلى ملكهم، فأعلمه بلحاق الرسل معهم، فسرّ بذلك ووجّه فيهم، فمشوا إلى مستقر ملكه، وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط، فيها مياه مطّردة وجنات، وبينها وبين البر ثلاث مجار، وهي ثلاثمائة ميل، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم".

ويضيف: "تقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة، منها صغار وكبار، أهلها كلهم مجوس، وما يليهم من البر أيضاً لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية وقد تركوا عبادة النار، ودينهم الذي كانوا عليه، ورجعوا نصارى إلا أهل جزائر منقطعة لهم في البحر هم على دينهم الأول من عبادة النار، ونكاح الأم والأخت وغير ذلك من أصناف الشّنار، وهؤلاء يقاتلونهم ويسبونهم".

وعندما علم ملك الشماليين بأمر السفير الأندلسي أمر له ولصاحبه بمنزل حسن من منازلهم، وأخرج إليهم من يلقاهم، وقد أقيمت احتفالات بمناسبة وصولهم. ويقول المقري إنهم رأوا العجب العجيب من أشكالهم وأزيائهم. ويضيف أنهم أنزلوا في مقر إقامتهم بكل تكريم، وأقاموا يومين قبل أن يستدعيهم الملك لرؤيته.

يحيى بن الحكم البكري الأندلسي - القسم الثقافي
الغزال (عن موقع المرسال)

ويبدو أن الغزال كان يتوقع أن تكون من طقوس الدخول على الملك أن يسجد له، فاشترط ألا يسجد هو وصاحبه يحيى بن حبيب، وألا يجبرهما أحد على شيء ينافي الشرائع الإسلامية، فوافق الملك على ذلك، ولما دخلا عليه، "قعد لهما في أحسن هيئة، وأمر بالمدخل الذي يفضي إليه، فضيّق حتى لا يدخل عليه أحد إلا راكعاً، فلما وصل الغزال إليه جلس إلى الأرض وقدم رجليه وزحف على أليته زحفة، فلما جاز الباب استوى واقفاً"، وبذلك تلافى الغزال موضوع الركوع الذي كان الملك قد أعده له.


في حضرة ملك الشمال

يقول المقري إن الملك كان قد أعد لهذا اللقاء حراساً مدججين بالسلاح، والزينة الكاملة. ولكن ذلك لم يؤثر على الغزال (الصورة)، ولا أشعره بالذعر، بل قام ماثلاً بين يديه، وقال: "السلام عليك أيها الملك وعلى من ضمه مشهدك، والتحية الكريمة لك، ولا زلت تمتّع بالعز والبقاء والكرامة الماضية بك إلى شرف الدنيا والآخرة، المتصلة بالدوام في جوار الحي القيوم، الذي كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه المرجع".

ويقول إن الترجمان شرح باستفاضة للملك ما قاله الغزال، فأعجبه الكلام كثيراً، وقال: هذا حكيم من حكماء القوم، وداهية من دهاتهم، وقد علق الملك على طريقة دخوله عليه، وجلوسه إلى الأرض وتقديمه رجليه في الدخول، حيث قال: أردنا أن نذله، فقابل وجوهنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه.

وعلى الفور سلم الغزال رسالة السلطان عبد الرحمن، وقرئت على الملك بحضوره، وتمت ترجمتها في الحال، فاستحسنها وأخذها في يده، ورفعها ثم وضعها في حجره، وأمر بالهدية ففتحت عيابها، ووقف على جميع ما اشتملت عليه من الثياب والأواني، فأعجب بها، وأمر بهم فانصرفوا إلى منزلهم ووسع الجراية عليهم".

ويختصر المقري الكثير من وقائع الرحلة ويقفز عنها، ويقول في ذلك إن "للغزال معهم مجالس مذكورة، ومقاوم مشهورة، في بعضها جادل علماءهم فبكّتهم، وفي بعضها ناضل شجعانهم فأثبتهم". وهذا يدل على أن المقري اطلع على نص الرحلة ولم يجد مناسبة لعرض القصص المرتبطة بتلك المجادلات، والوقائع التي كتبها الغزال في متن الرحلة.


حرية المرأة الشمالية
 
وصلت أخبار الغزال ونقاشاته وصولاته إلى زوجة الملك، فطلبت أن تراه، ويقول المقري: "لما دخل عليها سلم، ثم شخص فيها طويلاً ينظرها نظر المتعجب. فقالت لترجمانها: سله عن إدمان نظره لماذا هو؟ ألفرط استحسان أم لضد ذلك؟ فقال: ما هو إلا أنّي لم أتوهم أن في العالم منظراً مثل هذا، وقد رأيت عند ملكنا نساءً انتخبن له من جميع الأمم فلم أر فيهن حسناً يشبه هذا".

وقد أعجبت الملكة بإطراء الغزال، فقالت لترجمانها: سله أمجدّ هو أم هازل؟ فقال: لا، بل مجدّ. فقالت له: فليس في بلدهم إذا جمال، فقال الغزال: فاعرضوا عليّ من نسائكم حتى أقيسها بها. فوجهت الملكة في نساء معلومات بالجمال فحضرن، فصعد فيهن وصوّب ثم قال: فيهن جمال وليس كجمال الملكة، لأن الحسن الذي لها والصفات المناسبة ليس يميزه كل أحد، وإنما يعنى به الشعراء، وإن أحبت الملكة أن أصف حسنها وحسبها وعقلها في شعر يروى في جميع بلادنا فعلت ذلك.

وقد سرت الملكة بذلك الجواب أيما سرور وأمرت له بمكافأة، ولكنه امتنع عن أخذها، فقالت للترجمان: سله، لم لا يقبل صلتي؟ ألأنه حقَرها أم لأنه حقَرني؟ فسأله الترجمان، فقال الغزال: إن صلتها لجزيلة وإن الأخذ منها لتشرُّف لأنها ملكة بنت ملك، ولكن كفاني من الصلة نظري إليها وإقبالها عليّ، فحسبي بذلك صلة، وإنما أريد أن تصلني بالوصول إليها أبداً.
فلما ترجم لها الترجمان كلامه زادت منه سروراً وعجباً، وقالت: تحمل صلتُه إليه، ومتى أحب أن يأتيني زائراً فلا يحجب، وله عندي من الكرامة والرحب والسعة. فشكرها الغزال، ودعا لها وانصرف.

وينقل المقري عن الوزير تمّام بن علقمة الثقفي الذي كان وزيراً في بلاط عبد الرحمن الثاني أنه سمع الغزال يحدِّث بهذا الحديث، فقال له: "وكان لها من الجمال في نفسها بعض هذه المنزلة التي صورت؟ فقال الغزال: وأبيك، لقد كانت فيها حلاوة، ولكني اجتلبت بهذا القول محبتها، ونلت منها فوق ما أردت".

ويقول تمام بن علقمة: "أخبرني أحد أصحابه، قال: أُولعت زوجة ملك المجوس بالغزال فكانت لا تصبر عنه يوماً حتى توجّه فيه، ويقيم عندها يحدثها بسير المسلمين وأخبارهم وبلادهم، وبمن يجاورهم من الأمم. فقلما انصرف يوماً قط من عندها إلا أتبعته هدية، تلطفه بها من ثياب أو طعام أو طيب، حتى شاع خبرها معه، وأنكره أصحابه، وحُذّر منه الغزال، فحذر وأغبَّ زيارتها. فباحثته عن ذلك، فقال لها ما حُذّر منه. فضحكت، وقالت له: ليس في ديننا نحن هذا، ولا عندنا غيرة، ولا نساؤنا مع رجالنا إلا باختيارهن، تقيم المرأة معه ما أحبت، وتفارقه إذا كرهت".


أشعار الغزال

ينقل المقري عن الوزير تمام بن علقمة أن عمر الغزال في تلك الرحلة كان قد شارف الخمسين، "وقد وخطه الشيب، ولكنه كان مجتمع الأشُد، ضَرْبَ الجسم، حسن الصورة. فسألته يوماً زوجة الملك، واسمها نود، عن سنِّه، فقال مداعباً لها: عشرون سنة. فقالت للترجمان: ومَنْ هو مِن عشرين سنة يكون به هذا الشيب؟ فقال للترجمان: وما تنكر من هذا؟ ألم تر قط مهراً ينتج وهو أشهب؟ فضحكت نود، وأعجبت بقوله". فارتجل الغزال هذه الأبيات:

كلفت يا قلبي هوىً متعِباً غالبتَ منه الضيغمَ الأغلبا
إني تعلّقتُ مجوسيةً تأبى لشمس الحسن أن تغرُبا
أقصى بلاد الله لي حيث لا يلقى إليها ذاهب مذهبا
يا نود يا رُودَ الشباب التي تُطلِعُ من أزرارها الكوكبا
يا بأبى الشخصُ الذي لا أرى أحلى على قلبي ولا أعذَبا
إن قلتُ يوما إن عيني رأتْ مشبهَه لم أعدْ أن أكذبا
قالت أرى فودَيه قد نَوّرا دُعابةً توجب أن أدْعبا
قلت لها يا بأبى إنه قد يُنتَجُ المهرُ كذا أشهبا
فاستضحكت عُجْباً بقولي لها وإنما قلت لكي تَعجبا

ولما ترجم لنود الشعرَ وفسره لها الترجمان، ضحكت منه وأمرته بأن يختضب، أي أن يصبغ شعره. ففعل ذلك، وحضر إليها في يوم ثان وقد صبغ شعره، فمدحت خضابه وحسّنته عنده، فقال في ذلك:

بكرَت تحسِّنُ لي سواد خِضابي فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيبُ عندي والخضاب لواصف إلا كشمسٍ جُلِّلت بضباب
تَخفَي قليلاً ثم يقشَعها الصَّبا فيصيُر ما سُتِرت به لذَهاب
لا تُنكري وضَح المشيب فإنما هو زهرةُ الأفهام والألباب
فلديَّ ما تهوينَ من شأن الصِّبا وطلاوة ِالأخلاق والآداب

وبعد ذلك غادر الغزال وصحبه تلك البلاد، ووصل إلى شنت يعقوب، وهي مدينة سانتياغو في شمالي إسبانيا، يحمل رسالة ملك (المجوس) إلى أميرها. فأقام عنده مكرّماً شهرين، حتى انقضى حجُّهم، فسافر بعد ذلك إلى قشتالة مع المسافرين، ومنها خرج إلى طليطلة حتى لحق بالسلطان عبد الرحمن بعد انقضاء عشرين شهراً من بداية رحلته.

المساهمون