الطيب صالح.. في ضرورة البناء على اسمٍ نسيناه

28 مايو 2023
الطيب صالح (1929-2009 /Getty)
+ الخط -

التقيت بالطيّب صالح مرّة واحدة. كان ذلك في فندق، وكنّا معاً، في يومنا الأخير، على وشك المغادرة. فاجأني الطيب بلطفه وتواضعه ودماثته. كان توقّف قريباً عن الكتابة، والأرجح أن كتابه الأخير كان شيئاً بين المذكرات والرواية: "منسي؛ إنسان نادر على طريقته". كان تقريباً على هامش أعمال الطيب، التي لا نخطئ إذا حصرناها في أعماله الأساسية: "موسم الهجرة إلى الشمال"، "عرس الزين"، "مريود"، "ضو البيت ــ بندر شاه".

أعمالٌ قليلة، كما نلاحظ. فالطيب الذي بهر في روايته الأولى، "موسم الهجرة إلى الشمال"، وأتحف الرواية العربية في "عرس الزين"، و"مريود" و"ضو البيت..."، يكاد يتوقّف عند هذه الآثار، ولسنا نعلم لماذا توقف. "مريود" و"بندر شاه" كانتا تحفتين بحق، وكانا ينمّان عن مشروع روائي متكامل، وجدنا بذوره ومساره في روايته الأولى. مشروع يضيف بحق إلى الرواية العربية، ويؤسس فيها عملاً، يُعَد بحقّ أدباً خاصّاً، لا في الرواية العربية وحدها، بل في الرواية كلها.

الأرجح أن روايات الطيب الأربع الأولى كانت أصيلة إلى الحد الذي يمكن معه القول إنها بشّرت بمؤلّف خاص، ليس فقط في الأدب العربي، بل بدا أنها تضيف، إلى هذا الأدب، ما يميزه ويُلحقه بالأدب العالمي. الغريب هو سكوت الطيب غير المفهوم، واستعاضته عن الرواية بشواغل صحافية لا توازي أدبه، بل تبدو فقط من باب المهنة. كان هذا السكوت المبكّر غير مفهوم، فهو لا يرجع إلى نفاذ للموهبة أو جفاف فيها، كما لا يرجع إلى أزمة خاصة، ولا إلى قصور من أي نوع.

ترك لنا ما يمكن أن نسمّيه أصالةً وجدّة في الوقت ذاته

كتاباه الأخيران، وأعني "مريود" و"بندر شاه"، كان من الواضح أنهما يكملان عملاً روائياً بدأ بـ"موسم الهجرة إلى الشمال" وتألّق بـ"عرس الزين". وكانت الروايتان الأخيرتان استطراداً له وبناءً عليه، بل بدا أنهما تَجلّيان له واستكمالٌ واضح. كيف تراءى لمؤلّف "مريود" و"بندره شاه" أن يسكت، والروايتان قمّتان في عمله وتطوير لِما كان بدأه، ومرحلة جديدة فيه؟ كيف وصل الطيب إلى هذا السكوت لو لم يكن الأمر مزاجاً فحسب، وتوانياً شخصياً، وكسلاً أو ما يشبه الكسل؟

لكنّنا لا نلقي باللائمة عليه وحده، بل نلقيها على القرّاء الذين لا يجوز أن يعنيهم استمرار الكاتب أو نكوصه. يكفيه أنه أبدع في هذه الرواية أو تلك، وأنه شق طريقاً في الأدب والرواية في هذا الكتاب أو ذاك. قد نلقي باللائمة على القرّاء، لكن ينبغي أن نلقيها أيضاً على الناشرين الغربيين، الذين لم ينتبهوا بما يكفي لفرادة الطيب صالح، ليس ضمن الرواية العربية فحسب، بل ضمن الرواية كلها.

لو أراد هؤلاء الناشرون أن يقدّموا رواية عربية، أو صنيعاً عربياً في الرواية، فإنهم سيجدون ذلك في أعمال الطيب صالح، التي كانت، في وقتها، ليست جديدة على الرواية العربية فحسب، بل جديدة، بالقدر ذاته، على الرواية العالمية نفسها. سيجدون عنده رواية عربية جديدة، رواية تبني في الأدب العربي، وفي الأدب كله، ما يمكن اعتباره ابتكاراً، يستلهم لا تاريخ الرواية فحسب، بل يبني من اللغة العربية، ومن المخيال العربي ومن التاريخ الراهن، ومن التراث معطوفاً على الحداثة، بمقدرة على خلق ما يبدو، ببداهة، زواجاً تلقائياً بين الرواية العالمية والأدب العربي. ما يمكن أن نسميه أصالة وجدّة في الوقت ذاته.

أول روايات الطيب صالح، "موسم الهجرة إلى الشمال"، هي ليست، بالنسبة إليّ، أهم رواياته، رغم ما تركته من أثر لدى القرّاء العرب. قد يعود هذا إلى راهنية القضية التي تبني عليها: قضية الإرث الكولونيالي والحيرة بين هذا الإرث والتقليد العربي. القضية جديدة وأسلوبها جديد. لكنّ الرواية التي تبدو فيها موهبة الطيب وأصالته، قد تكون في "عرس الزين"، قد تكون في "مريود" و"ضو البيت ــ بندر شاه"، فهذه الروايات الثلاث، في مجموعها، قد تكون بحقّ الملحمة العربية الراهنة. 

ليست "موسم الهجرة إلى الشمال" أهمّ رواياته

إنها، في مجموعها، استعادة مذهلة للحاضر في ضوء مخيال غرائبي، قد يتّصل من بعيد بـ"ألف ليلة وليلة" وبالعجيب المتواتر في الرواية العربية. هذه الروايات هي فانتازيا خاصة، فانتازيا من جهة التراث العربي، بقدر ما هي من جهة الرواية العالمية.

لا نستطيع أن ننسب هذه الروايات إلى الواقعية السحرية الأميركية الجنوبية، لكنّنا نستطيع، بدون أن نخلط بينهما، أن نجد فيها واقعية سحرية عربية، واقعية سحرية لا تستمدّ من التراث السحري العربي فقط، بقدر ما تستلهمه في أسلوب يزاوج بين العجيب التراثي والعجيب المُعاصر. روايات الطيب صالح هذه قادرة، بعفوية نادرة وبما يشبه البداهة، على أن تخلق تركيباً واندماجاً بين عناصر شتى، بينها ما هو تراثي وما هو شعبي وما هو حديث، وما هو تقليد وفولكلور في الوقت ذاته.

في رواياته الثلاث الأخيرة يستطيع الطيب صالح، بحق، أن يبتكر ملحمة عربية معاصرة، ورواية عربية خاصّة وأصيلة. يستطيع أن يبتكر زواجاً بديهياً بين اللغة والمخيال العربيين والفضاء العالمي. أمرٌ كهذا لاحظه القرّاء العرب، لكنّهم الآن تناسوه، وينبغي من أجل الرواية والأدب العربيين أن يعودوا إليه، أن ينطلقوا مجدّداً منه ويبنوا عليه.

* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون