"الطريق بأصحابه" لمجد كردية.. دعوةٌ إلى الطيران

21 يونيو 2023
(من المعرض)
+ الخط -

يصحّ أن نقول عن عوالم التشكيلي السوري مجد كردية (1985) أنها تسبق صاحبَها، أكثر من أن نقول إنها ترتحل معه. كونها أعمالاً مدفوعةً قافزةً بِطاقة كبيرة. كذلك للحُمولة الفِطرية، المبثوثة في توقيعاته، أثرُها الذي يجعلنا، أوّل ما نتذوّقها أو نتملّاها، نستعينُ بـ انطباعاتٍ حِسّية تُشبهها، أو بمقولات سائرة على الألسُن، كأن نقول "هي أعمالٌ قريبة من القلب". وانطلاقاً من هذه المقولة الشعبية البليغة، يمكنُ أن نستقرِئ معرضَه الاستعاديّ "الطريق بأصحابه"، الذي افتُتح في مبنى "جريدة السفير" ببيروت، في السادس من حزيران/ يونيو الجاري، ويتواصل حتى السادس والعشرين منه.

أكثر من مئة لوحة هي مجموع أعمال المعرض، أنجزها صاحب "الفصاعين" خلال السنوات التسع الأخيرة من مسيرته التشكيلية. دعوةٌ إلى الطيران تنتابُ الزائر، حيث الجوّ الذي تنقلُه اللوحة يتسلّل خارج إطارها؛ الأشكال الهندسية المُرتبِكة لا تحكي عن دوائر ومربّعات، بل عن أطفال يحضرون في توقيعاته بشكلٍ أساسي، وهنا يُمكن أن نضيف دعوةً ثانية، فضلاً عن الأُولى، تمدُّها وتفيض بها وعليها... إنها دعوةٌ إلى الفرح. 

لوحاته مرايا مُخاتلة وسحرية نرتدّ عبرها إلى طفولتنا

وإذا كانت الأولى تُخلّصنا من قسوة الواقع، وجاذبية الأرض التي تشدُّنا، فالثانية تذكّرنا بأنفسنا، هي ظلُّ أعمارنا الهاربة منّا. ذلك الطفل نعرفُه جيّداً، تُسعفنا لوحة كردية برؤيتِه إنْ وقفنا أمامها، أمّا المرآة العادية فلا، هذه الأخيرة تُعيدنا إلى قسوة الواقع ولا تُجامل؛ لذلك لوحات "الطريق بأصحابه" أشبه ما تكون بمرايا مُخاتلة وسحرية، نرتدّ عبرها إلى طفولتنا، ومبالغةٌ حُلمية لا تكفّ عن التخفُّف.

الصورة
مجد كرديه - القسم الثقافي
الفنّان في معرضه

ولمّا كانت الطفولة حاضرة، فالصداقة بما هي وجهٌ من وجوه البراءة، معقودة أيضاً، لا بين الأطفال فحسب، بل مع كلّ الكائنات التي تتساقط من السماء، ولا يهمّ إن كانت طيوراً أم لا، بالعكس تماماً، فالحِيتان والفِيلة والأحصنة هي ظلالٌ مُحلّقة في غمامة الفرح التي أسلفنا الحديث عنها. وحضور الحيوانات في اشتغالات التشكيلي السوري يبدو توقيعاً فريداً يُميّزه عمّن سواه، ولا تُخطئه العين. 

لكنْ خلف كلّ ما سبق، يقعُ حزنٌ شفيف، الأمر لا يستدعي تأويلات تراجيدية كُبرى بالضرورة، إنما حَسْبُ تلك الغمَامة أن تتلوّن بشيء من الرمادية، أن تقسوَ عليها الرياح، ألّا يُحالفها حظّ الإمطار من فوق تلّة، حتى يتفاعل معها العنصر البشري في اللوحة، وكأنّ الانكسارات تتجاوب مع بعضها البعض، وهذا ما يُلخّصه افتراقُ حبيبَين بوجهَين بريئَين، وخدودٍ ما زالت محتفظةً بمقدار وافر من الحُمرة. 

الصورة
من معرض مجد - القسم الثقافي

الفراشات والسمكات والحمير والفِيلة جوقةٌ يُسيّرها الخيال... حوارُ كردية مع الطبيعة وكائناتها لا ينقطع. أما البشر عنده لا "يرتكبون" أو "يقترفون"، بل "يحزنون" و"ينكسرون"، وإنْ كان من حاجة يتوقون إليها، وتُواسي خواطرهم، فليس سوى الحبّ. يُلحّ كردية على موضوعة الحبّ، ويضعه في سياق البراءة، فلا يمَسُّ شيئاً إلّا ويبثُّ فيه سحراً طفولياً، ولا يبتعد هذا الحبّ عنّا إلّا ليورثنا خيبة طفولية أيضاً. مِزاجٌ غريبٌ حقّاً، مع أنّ المعرض في ذاته ليس موجّهاً للأطفال، إنما "للطفل الذي في داخلنا"، عبارةٌ يعدُّها البعض مُكرّرة، ولكنْ، من قال إنّ الاشتغال على المُكرّر والبَدَهي، والتذكير بهما، لا يتطلّب جَهداً وحِسّاً عاليَين.

يُتيح المعرض الاطّلاع على مجموعات مختلفة، هي: "الأرض لازمها كوي" (2014 - 2016)؛ و"سرقة الأحزان" (2017)؛ و"استسلم للمحبّة" (2018)؛ "تمسّك بالوردة" (2019)؛ و"نستمرّ في رفع راية الشمس" (2020)؛ و"سلام بطيخي" (2021)؛ و"الجرح واحد الابتسامة واحدة" (2022)؛ و"جناح الحُلم" (2023). مجموعاتٌ تبقى مشدودة ومؤمنة برؤيةٍ إنسانية عن العالَم مهما مزّقته الصراعات.

المساهمون