"الشيطان..." لصباح الدين علي: إسطنبول في الماضي

03 يناير 2023
صباح الدين علي
+ الخط -

رواية "الشيطان الذي بداخلنا" للشاعر والروائي التركي صباح الدين علي (1907 ــ 1948)، رحلةٌ إلى إسطنبول في الماضي بأمكنتها وتياراتها الفكرية المختلفة. الرواية، التي صدرت ترجمتها العربية بتوقيع أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير عن "مرايا" في الكويت (2022)، كانت قد ظهرت باللغة التركية عام 1940. لكنّ قارئ اليوم لا يذهب إلى ذلك الماضي بوصف الرواية تدور في حقبة سابقة؛ بل، بقدر ما تتحدّث الرواية بأحداثها عن إسطنبول ذلك الوقت، فهي ــ بانفعالاتِ شخصياتها وبصراعاتهم الداخليَّة، وبالطريقة التي يجدون أنفسهم فيها تحت تأثير الشر أو في ظلِّ الخير ــ كأنَّها كُتِبَت للتوّ. والحدث العام، الذي هو عصبة من الشباب المتآمرين على الحكم، ليس إلّا وسيلة لبناء حكاية الحبّ، ورصْد مصير البشر في سكراته وهذيانهِ.

الصراع هو ما يميّز رواية صباح الدين علي، وهو ما جعل منها نصّاً يُقرأ في كلِّ وقت، لأنَّ الصراع هو جوهر الفنّ أساساً. وهو هنا يأخذ وجوهاً عديدة تترافق معاً منذ البداية إلى النهاية، ما يجعل منها نصاً مشوِّقاً، إذ دائماً يوجد لدى الشخصيات اختبارٌ ما، وهو اختبارٌ أخلاقيّ في الغالب. إذ تدور الحياة في إسطنبول بين رحى الشيطان، والشخصيات عُرضة لحتمية الاختيار بين القيم التي تترك الإنسان في هدأة الممكن، وبين نقيضها الذي يدفع بالمرء إلى المجد المستحيل كما تصوّره اللحظة الملتهبة في رأس الشخصيات.

يبدو النص وكأنه كُتب للتو رغم صدوره بالتركية عام 1940

الصراع المحتدم داخل الشخصيات، على امتداد النَّص، لم يجعله نصّاً يُقرأ في أزمنة مختلفة فحسب، بل هو صراع قويّ قوّةً تدفع باللحظة الملتهبة إلى القارئ. والتساؤل الذي يلوب في الصفحات يجعل القارئ جزءاً من العملية الذهنية التي تطحن الشخصيات، ويعيده إلى صراعات الأسئلة الأخلاقية الصعبة التي قرأها مراراً في أعمال فيودور دوستويفسكي. حتَّى إنَّ الفضاء الحالم، الذي يسم إسطنبول ويجمع العاشقين في عتمته وشاعريته، وتحت سطوة الآمال بالتقاط الحبّ وإشاعته، يعيد القارئ إلى رائعة الروائي الروسي، "الليالي البيضاء" (صدرت بالروسية عام 1848). أمّا الأسئلة الأخلاقية الصعبة، فهي شائعة في أعمال الروائي الروسي (1821 ــ 1881). وهكذا، يظهر صباح الدين علي في نسخة تركيةٍ من دوستويفسكي ضمن مسألتين: الصراع الدائم الذي يوتِّر النَّص، والهدوء الآسر لغفلة العاطفة.

الشخصيات التي تصنع الحكاية قليلةٌ، وهي بدري وماجدة وعمر، حيث ماجدة تبدو عالقةً بينهما بالترتيب نفسه. تبدأ حياتها في الريف طالبةً عند أستاذ الموسيقى بدري، وتنتهي في إسطنبول صديقةً له، مروراً بزواجها من عمر، أو بالأحرى عَيشها معه كزوجة لمدّة، فالرواية تنتهي من غير أن يُنجز عمر أوراق الزواج، وهذا ما يتوقّعه القارئ بسبب طبيعة عمر وطبيعة ارتباطهما المتعجّلة، فهو شاب تلتهب الرغبة في روحهِ.

الصورة
الشيطان الذي في داخلنا ـ القسم الثقافي

يلتقي عمر بماجدة مصادفةً، ويشعر بأنَّها فتاة حياته. يتوجَّه إليها، ويكتشف أنَّها قريبته، وقد أحضرتها قريبة مشتركة بينهما إلى إسطنبول كي تُحسِّن من شروط حياتها؛ أي، كي تجد زوجاً ثرياً ومن طبقة اجتماعية أعلى من طبقة عائلتها. فالفتاة، ماجدة، عدا عن جمالها الذي يفتن الآخرين أينما حلّت، هي فتاةٌ موهوبة بالعزف، وتُكمل دراستها في المعهد الموسيقي. كذلك عمر، الذي يدرس ويعمل، لكنّه لا يُكمل شيئاً بدأه، إذ ينطلق دائماً بتأثير انفعالاته التي لا تلبث أن تخفت وتموت وتنتهي. بالطريقة ذاتها كان اندفاعه إلى ماجدة وتخلّيه عنها لاحقاً، بعد أن تخلّت عنها قريبتها إثر وفاة والد ماجدة.

على الجانب الآخر من الرواية، تمثّل حكاية بدري مع ماجدة الوجه الآخر للعاطفة، إذ لا تشبّ هذه العاطفة بينهما وتنكسر بسرعة، إنّما تنمو نموّ الزمن البطيء المُتهادي. ولو أنَّ ما دفع بهما إلى الانتباه لخصوصيةٍ ما تجمعهما، جاءَ من مجتمع المدرسة الضيّق الذي هابَ اقتراب الأستاذ من التلميذة، وافتتانه بموهبتها والتزامها، على الرغم من أنّهما لم يكونا في البداية سِوى أستاذ وتلميذته بالفعل. لكن النَّص يعرض تأثير المجتمع التركي وثقافته، وذلك في سلوك مدير المدرسة الذي دفع الأستاذ والتلميذة إلى التَقارب بفعل تعرّضهما لتهديد واحد، هو تهديد الفضيحة. وفي سلوك أصدقاء عمر الذين مثّلوا أحد وجوه إسطنبول من خلال الحيلة والخديعة.

يتقاطع بناء الكاتب مع الصراعات التي تميّز سرد دوستويفسكي

يستغلّ أصدقاءُ عمر الشبابَ المتحمِّس بحديثِ المبادئ، وهم في الحقيقة أشخاصٌ انتهازيون يريدون المناصب، حتّى أن عمر سيكون في نهاية المطاف ضحية لهم. فالرواية تمجِّد الشيطان وتدينه في الآن نفسه؛ إذ تمجّد لحظة الاندفاع وحسب، ثمّ ما يلبث الندم الشاق أن يعرف طريقه إلى الشخصيات. ونعرف أنَّ أحدهم عندما يتبع الشيطان الذي بداخله، فإنَّما يتبع وهماً صنعه، ما يلبث أنْ يتحطّم ما إن يخضع للوقائع التي تصنعها إرادتا الملاك والشيطان معاً. والملاك هنا مفردةٌ من خارج النصّ، لكنّها تمثِّل أيّما تمثيل مذهب ماجدة التي رأت نفسها تخدم فكرة الحبّ والتضحية، ومذهبها مذهب البراءة التي لا يصيبها الدَنَس، إذ لا يتآلف مع قيمها. عدا أنَّ إرادتها دائماً كانت غائبة وراء الظروف التي تحيط بها، كما لو أنَّ الاندفاع حِكرٌ على الشيطان.

على هامش حكاية ماجدة، التي تبدأ مع بدري وتنتهي معه، مروراً بقصّة قصيرة مع عمر، نقرأ حكاية الصرَّاف الذي اضطرّ إلى الاختلاس بسبب قريبه، ومن ثمَّ لجأ إلى عمر كي يجد له مخرجاً نزيهاً. لكنّ عمر استغلّه بدوره، فأخذ ماله، ودفع به إلى الهروب من العدالة. وفي هذه الحبكة البسيطة، التي تحدث على هامش الرواية، يمكن اختبار مقولتها بعيداً عن الحبّ؛ فالشيطان الذي بداخلنا هو الاستجابة للمخاوف، بدلاً عن مواجهتها. الشيطان لا يتمثّل فقط في الرغبات، وإنّما في غياب مقاومتها والانسياق وراءها. ومن ثَمَّ لتسحق الشخصيات رحى الندم، ومعها منطق الحياة الذي يؤجّجهُ صراع أبدي بين الملاك والشيطان.

المساهمون