كثيراً ما يُوضَع الأدب في مواجهة مسألة الالتزام، لا سيّما في بلدان تشتكي من واقعٍ مأزوم. إمّا حروباً أو فساداً اجتماعياً، من جرائم وتشدّد وانسداد آفاقِ العيش. ولربما تَصلُح بلدانٌ مثل بلداننا لتسويغ الالتزام في الأدب. فكثيراً ما يُنتَظَر من الكتّاب أن تكون لديهم كلمتهم، وأكثر من ذلك قد يُطلَب من الكاتب موقف واضح إزاء حدث محدّد. لكن كيف يُصنع ذلك في الأدب؟ ما ترجمة هذا الرجاء في الأدب ذاته؟
التصوّر العام عن الالتزام يجيء من التزام الكاتب بمسائل الحرية والعدالة الاجتماعية، وهذه مسائل مطلقة، لا ترتبط بتفصيل في الواقع، وتحيدُ عن آخر. وقد عَدَّ سارتر السؤال الأكبر في الأدب هو سؤال الحُريّة. بعد ذلك تندرج باقي الموضوعات التي قد تُميِّز كاتباً عن آخر، إنّما الحريّة هي الشرط الذي، نظرياً، يجب أن ينطلق منهُ الجميع.
ليست الحرية السؤال الأكثر حدةً في الأدب وحسب، وإنّما تطبيق ذلك في الحياة أيضاً أمرٌ محفوف بالأخطار. إذ يصعب على الكاتب الذي يعاصرُ أزمات مركّبة أن يؤدّي الدور الذي أعدّه سارتر لهُ وألزمه به؛ بأن تكون كتابتهُ صنواً للحريّة، الأمر الذي ينطوي على أخطار عديدة بحضور مفردات القتل والاعتقال وتشويه السمعة وكاتم الصوت، وما إلى ذلك من ممارسات لا تبخل بها أدوات الطغيان السياسي والديني الذي نشهده.
على هذا النحو نجد أدباً يكيدُ بالواقع من غير أن يسأل سؤال سارتر المرتبط بالحريّة، أدباً يصوّر الواقع تصويراً انتقامياً قاتماً يؤكّد انسداد آفاق العيش وغياب الآمال. كأنّما اقتصر دور الكاتب ــ الذي قَصُرَ عن التزام سارتر ــ على تصوير ما يحدث. وفي سعيه إلى تصوير ما يحدث من جريمة وامتهان صار الكاتب يعتدُّ بأنّه قال كلمتهُ التي تقتصر، عبر التوصيف، على الإدانة، وفي ذلك تصوّرٌ قاصر عن الحريّة التي يمكن للأدب أن يمنحها، في ذلك قصقصةٌ للأجنحة وخروج بالأدب إلى سجنٍ آخر من غير قضبان.
يتيح الأدب للإنسان ذلك الدرس: ماذا نصنع من آلامنا
من نافل القول معرفة أنّ خطاب الحريّة هو الخطاب الأكثر إنسانية الذي قد يتبنّاه الكتّاب، فهو خطاب ينطوي على تحرير البشر ممّا قد يسيء إلى إنسانيهم، من افتقارٍ للعدالة أو استغلالٍ أو غياب للحقوق، لكن هذا القول يندرجُ في إطار نظري بحت. أمّا كيفَ يُتَرجِمُ الكاتب فكرتهُ عن الحريّة في أعماله، فالإجابة عن سؤال مثل هذا تختلف بين كاتبٍ وآخر. ويُعَيَّن التمايز في أسئلة أخرى مرتبطة بسلوكِ الشخصيات التي يصنعها الكتّاب وباستجاباتها. على سبيل المثال؛ هل يكرّر الثائر سلوك من ثار عليهِ؟ هل يَخْلُصُ المقاتل من الحرب من خلال التفكير بالسلام أم التفكير في الثأر؟
أن يكون الظلم مداناً أمرٌ بديهي. لكنّ المُخْتَلَف عليهِ هو تلك الطاقة التي تتولّد داخل المظلوم، فالظلم معطىً ثابت. لكن من يتعرّض له قد يفكر بممارستهِ على آخرين، ومثلما عانى هو قد يدفع الآخرين إلى المعاناة. في المقابل قد يفكّر المظلوم بأن يرفع الظلم عن آخرين، ويجنّبهم تبعاته المريرة. للكاتب هنا أن يجيز للشخصيات النمو خارج العُقَد التي شكّلتها، من غير أن يُفرّط بأن يكون أدبهُ ملتزماً وواقعياً. فالأدب يتيحُ ذلك الدرس للإنسان؛ وهو ماذا نصنع من آلامنا.
لربما مقاضاة الكاتب ــ إذا وَجَبت مقاضاته ــ تنتهي إلى محاكمة نصّهِ. وبالنسبة إلى قارئ يعيشُ في بلدانٍ واقعها مأزوم وقاتم، فأكثر المواقف التي ينتظرها في كتاب؛ هي ما يدفعه إلى التفكّر بدءاً من العُقَد التي صنعها الواقع داخلهُ، إلى التحرّر منها. القارئ الذي يقاسي واقعاً قيّدهُ بالأغلال، إذا ما وجدَ الحرية، ولو في نصٍ تخيّلي، لربما يفكر بالخروج عن سياق الامتهان وغياب الحريات الذي يحطّمه، والتفكير خارج القضبان.
* كاتب من سورية