الزمن الفلسطيني.. عَود على مصطفى الحلّاج

04 فبراير 2024
مصطفى الحلّاج/ فلسطين
+ الخط -

في معرض ارتجله "غاليري صالح بركات" في بيروت دعماً لغزّة، كان قائماً بهذه الصفة، من دون أن تكون اللوحات المعروضة على صلة مباشرة بحرب غزّة، بل إنّها في معظمها مؤلَّفة قبل الحرب بعقود، وبعض من فنّانيها لم يعودوا على قيد الحياة، إذا سمّينا عارف الريّس (1928 - 2005) على سبيل المثال. لكنّ المعروض، وبينه جدار كامل لضياء العزاوي، كان يليق به أن يُهدى إلى غزّة.

لم يكن للمعرض، لذلك، أيّ نوع من الوحدة، وكان ممكناً أن يبقى الأمر كلُّه قيد التكريم، لولا أنّ جانباً من جدار كان مخصَّصاً للوحات غرافيكية لمصطفى الحلّاج (1938 - 2002)؛ الفنّان الفلسطيني الذي احترق بالنار التي غزت مرسمه، وتدخّل هو لإنقاذ أعماله، ومنها واحد يزيد طوله على 140 متراً، وعُدّ لذلك أكبر لوحة في التاريخ. لا نستطيع أن نردّ لوحات الفنّان الذي غادر عالمنا، منذ أكثر من عقدين، للحرب على غزّة.

من الصعب أصلاً أن نجد، في هذه الأعمال، البروباغندا السياسية التي شاهدناها في أعمال الثنائي شمّوط. مع ذلك خالجني شعور بأنّ غزّة، على نحو ما، موجودة في هذه المحفورات.. أنّ الحصان الذي يتكرّر تقريباً في كلّ اللوحات، يمتّ، بطريقة ما إلى الفلسطيني اليوم، وهو في حركته الحرّة، وصهيله الذي يكاد يصعد من اللوحة، بالطيور التي تحلّق حرّة في الهواء الذي يعلوه، بالنساء السامقات كشرائح مديدة، بالصدور الخصيبة، بالحيوانات الهائمة، كلُّ هذه التي يلحقها أحياناً ما يشبه البنادق، حيث العيون نفسها واسعة كالطلقات، والنساء يستطلن بسلاحهن.. كلّ هذا، ليس بموضوعاته فحسب، ولكن أيضاً، وأكثر من ذلك، بما فيه من عمق زمني، من أسطورة راهنة، يكاد يكون في مجموعه غرنيكا أُخرى، لتكُن الغرنيكا الفلسطينية.

حرية الخيال عنده كانت تتحوّل إلى قدْر من السلاسة يشبه الأغنية

مصطفى الحلّاج الذي قابلناه في بيروت، التي فارقها بعد الاحتلال الإسرائيلي، كان فذّاً بشكله، بلحيته الشعثاء المسترسلة إلى ما لا نهاية، بشيخوخته المبكرة، ووجهه الذي يكاد يكون آتياً من التاريخ، بل يكاد يكون محفورة قديمة، لم نستغرب حين اطّلعنا على محفوراته، كان يبدو فيها وكأنّه يرسم نفسه. لقد كان جزءاً من لوحته، بل جزءاً من الزمن المعلَّق، الذي هو زمن اللوحة. الزمن الذي يجعله الشتات والنزوح والمنفى شبهَ ثابت وشبه ضائع في الوقت، وشبه صادر عن أسطورة.

لوحةُ مصطفى الحلّاج ليست مباشرة، ليست حدثية، وليست بروباغندا سياسية. لقد كان يمتح من مصدر أبعد من ذلك. كان تاريخ المنطقة السحيق، في مصر والساحل السوري وبين الرافدين، هذا التاريخ كلّه، ومنذ أوّلياته وحتى لحظتنا الراهنة، هو بيته. كان في كلّ لوحة يرسم، من داخل هذا المدى وهذه المسافة. إذا تكلّمنا عن فلسطين، فإنّ فلسطين كلّ هذا العمق، العمق الذي يشمل الإنسان والحيوان والطبيعة والأشياء. لم يتوقّف الزمن في هذه المنطقة، لم يتوقّف خاصّة في فلسطين. إنّه في مجموعه، في تواليه، يملك هذه الوحدة التي هي اسم المنطقة، اسم فلسطين الذي يبقى ببقاء التاريخ.

قيل كلام عن سوريالية الحلّاج، عن رمزيته، لكن حرية الخيال عنده كانت تتحوّل إلى قدْر من السلاسة، يشبه الأغنية. كان الحلّاج هو الرائي، لكن أيضاً هو المغنّي. كان الأسطورة، لكن أيضاً الحكّاء، بحيث أنّ لوحاته، كما قيل حقّاً فيها، هي سرديات، هي أيضاً حكايا، وهي بدرجة ما تزيينات وبوسترات. هكذا هو الحلّاج، هكذا هو الزمن الفلسطيني.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون