بعد أربعين سنةً على إصدار محمد شكري (تُصادف اليوم ذكرى رحيله التاسعة عشرة) لعمله الأول "الخبز الحافي". يُراجع المعماري مصطفى أقلْعي ناصر مسيرة الكاتب المغربي البارز، وذلك من موقعه كصديق لشكري، ومنشِّط لكثير من لقاءاته وجلساته في رحلاته إلى أوروبا.
تعرَّفتُ إلى شكري للمرّة الأولى في عَقد الستينيات، لمّا كان يعمل أميناً لمكتبة "ثانوية ابن بطوطة"، في طنجة، وكان وقتَها ينصحُنا بقراءة الكلاسيكييّن، عند قدومنا إليه لكي نستعير الكتُب. لكن في باريس تعرَّفتُ إليه أكثر، أثناء مرحلة دراستي فيها لتخطيط المدن، في سنوات الثمانينيات، وفيها صرنا صديقين كبيرين، وكان قد حضر إليها بمناسبة مروره الذي لا يُنسى بالبرنامج التلفزي الفرنسي Apostrohes المُخصّص للكتب، والذي كان يُديرُه الصحافي الثقافي برنار بيفو، في أعقاب صدور الترجمة الفرنسية لسيرة شكري التخييلية "الخبز الحافي" أو "الخبز وحده".
ذلك العمل السِّيَري (الأوتوبيوغرافي)، لم يظهر بالفرنسية إلى غاية 1980؛ وكان قد نُشر أوّلاً بالإنكليزية مُترجَماً مِن قِبل من كان مكتشِف شكري، الكاتب الأميركي الشهير بول باولز، تحت عنوان "من أجل الخبز وحدَه" (1973)، ونشرَه بيتر أُوِين. كما نُشرت الترجمة الإسبانية عام 1980 أيضاً، وقدَّم لها خوان غويتيسولو.
في مُستهلّ سنوات التسعينيات، حظيتُ برضىً عن النفس كبير لكوني ترجمتُ إلى الإسبانية فصلاً من المجلّد الثاني من مؤلَّفه "زمن الأخطاء"، ولأني رافقتُه أثناء إلقائه محاضراته التي ألقاها في غرناطة، ومُوتريل، وألمرية، بصفتي محاضِراً وقارئاً لنثره بالإسبانية. كذلك تعاونت مع شكري في مراجعة وتنقيح النسخ التجريبية لنصوصه، ثم كان العام الأسطوري 1992، سنة الأُبّهة في برشلونة وإشبيلية.
كتب السيرة بوصفها كفاحاً لا تساهل فيه عن سبُل العيش
محمد شكري من مواليد سلسلة جبال الريف، الطنجيُّ الإقامة، الذي اعتُبر من بين أبرز وجوه السرد المغاربي، كما يُبيّن ذلك مُنتَجُه الأدبي العريض والوفير، الذي كانت بداياتُه منتصَف سنوات الستين، ويتألّف من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات، ومن عدد من الأبحاث التي نشرها في مجلّات عربية متخصّصة في النقد، مثلما نشر ترجمات إلى العربية لشعراء إسبان، كترجماته لأشعار الأخوين ماشادو، ولميغل إِرناندث، وفدريكو غارثيا لُوركا، وآخَرين. كذلك كتب عن معِيشه مع الملاعين: جان جوني وتنيسِي ويليامز.
العجيب أنّ "الخبز الحافي"، العمَلَ الأشهر لمحمد شكري، المُترجَم إلى أكثر من ثلاثين لغة، قد رفضه الناشرون العرب مُتذرِّعين بكونه يعكس فيه أدباً عديم الأخلاق وإباحياً. لقد أحدث نشر هذا العمل رجَّة في المشهد الأدبي العربي، ذلك أن هذه السيرة الروائية، كما كان يحلو له أن يَنعتَها، هي حكي قاسٍ وفظيع، لا تساهل فيه ولا تنازل عن الكفاح اليومي، في سبيل العيش، من قِبل طفلٍ قروي، ينتمي إلى منطقة عوقبت بأعوام طويلة من الجفاف والمجاعة. قدم شكري من الريف إلى مدينة دولية هي طنجة، حيث كان يتدافع ويختلط المليارديرات، والمغامرون، ورجال المافيا، والجواسيس، والفنّانون، والأشرار، وكُتاب "البيت جنرايشن".
في حزيران/ يونيو 1996، نشر شكري نصاً مُدمِّراً سرد فيه بالعربية ذكرياتِه عن بول باولز، وعن إقامته في منفاه بطنجة، وفيه تقمّص شُكري شخصية إدوارد سعيد، وطوَّر فيه نقداً جذرياً صوَّبه إلى الاستشراق بصفته خطاباً بناه الغُندور باولز، خطاباً فشل من جهته باعتباره أداةً للقُوّة التي تدعم المشروع الكولونيالي والأبوية. تشكّلت صورةُ الشرق، وهو في هذه الحال طنجة، من مقاطع تناصية، تتراكب مثل مصفاة، إنها صورة مَبنِيّة، وليست أنا حقيقية. وكم من مرّةٍ خلْف الغرائبية لم يكن من شيء آخر سوى العنصرية، زيادةً على قليل من الغنائية. تحت تلك الكلمة، يوجد عالَم خانع، وحديقة حيوانات يَلزَم بناؤها، ويجب تحديدُها. هناك مَباحث أخرى ستتعاون في إنجاز ذلك، وستُبتَكَر عملياً في الإطار نفسِه واللعبة ذاتها، فَكِّروا في أنثروبولوجيا تُعرِّف البدائي، أو المتوحِّش، أو البربري وهي في اتحاد بالتاريخ. ليس الاستشراق أكثر من أسلوب وخطاب غربيَّين للسيطرة على الشرق حسب إدوارد سعيد.
الأرض الأدبية لشكري هي عالم من البَلايا، تُقدِّم إفلاسات، وتقلّبات، وقطائع، وفجاجة غير مُعفاة من الحنان والتهميش والعنف. لجأ شكري إلى الانتهاك لاستنقاذ البراءة الضائعة، ومن خلال قذارة النص وعنفه، كان يُخصِّب اللغةَ العربية بكلمات بربرية، وإسبانية وعامية عربية، مخالِفاً القوانين المقَدَّسة للنحو.
يُحدِّثنا محمد شكري، في "الخبز الحافي"، عن مَعيشٍ شخصي مُمِضّ، عن عالَم أُسري يقوم على العنف والبؤس (سوء المعامَلة، الجوع، إلخ.) حيث كانت الاستمرارية قيد الحياة المهمةَ الأساسية: "كنتُ أسبُّه في خيالي. لو لم أفعل ذلك عَبر الخيال، لكنتُ قد انفجرْتُ". قال في إحالة إلى الأب سيّئ المعامَلة معه ومع أسرته. في هذه السيرة الذاتية، سعى شكري إلى أن يستعيد الماضي ويَبنيه، فنجح في تحويل تجربته المعيشة ذِهنيّاً وشفهياً إلى كتابة، وهو الذي الذي كان يجهل الكتابة والقراءة حتى سن الواحد والعشرين.
في روايته "وجوه"، يتسلَّل شكري إلى داخل بؤس أولئك الناس الذين يعيشون في طنجة، فتمكَّن نثره الممزَّق والحادّ، والدقيق، من أن يبلُغ أفْضَل لحظاته، لكي يحكي المَرْأى الداخليَّ - الخارجيَّ لخمس عشرة شخصيّة تلتقي، ثم تضيع في الجغرافيا الليلية والخشنة لمدينة أدبية. التي هي بدورها فعلاً ليست لا أقلّ ولا أكثر مما كانت عليه طنجة، التي كان فيها لاعبو القمار الأجانب، والتائهون، والكحول، والمخدرات، والمجرمون، والعاهرات، والزُّعران، والأدِلَّاءُ غير القانونيين، والمُفكِّرون عديمو الاحترام، إلخ. كائنات على حدود الهامش تتيه عبر صفحات شكري، مُحاوِلةً التعرُّف إلى نفق دامس لمعنى الاستمرارية في الحياة.
بالانتهاك وحده أنقذ البراءة الضائعة وبه شيّد نصه
لا يخفى أن مجتمعاتنا الأصلية التي تهيمن عليها الثقافة الشفهية تُفضّل الكلمة المنطوقة على الحرف المكتوب، والأروع من الكتابة التي قليلاً ما تتيسَّر لتعرية السيرة الذاتية، وللكشف عن الانتهاك، برزَ شكري مجترِئاً على ثوابت الإيتوس والمعتقدات ليُعانِيَ الهجمات القاسية من قوى نافذة، التي كانت تتكاثر في شبكات التواصل الاجتماعية، وليُغامر بالتحوُّل إلى هدف لمُحاكمة من قبل بعض الفقهاء.
لقد عذَّبه طيلة عُمره حكيُه لحياته في "الخبز الحافي"، وعاقبه بسمعة المؤلِّف المنبوذ، والمحروم من العناية الإلهية، والموصوم بمعاداة الوطن ومعاداة القومية. وكان هذا التشنيع الاجتماعي به شديد الوقع عليه حتى إنّه أغرق شكريَ الريفي البوكوفسكي في إدمان يومي على الكحول، كأنها مُسكِّن يواجه به أحزانه وكربه.
وأبعد من الشخصية التي رغب بعضُهم في استغلالها ليتفادوا كتابته، فإن العبقرية الحقيقية لشكري لمعت نَصِّياً دوماً في بيوت الهوى أو الحانات، برفقة قرّائه الأوفياء ومُعجَبيه الذين لم يسمحوا له بأي انزلاق قطّ. شكري روح عصيَّة على الترويض، ومنسجمة مع ذاتِها، ومُنتهِكة للسائد حتى الموت. بعدَه، مثلما قال عنه صديق له حميم: "عادت طنجة إلى الموت مُجدَّداً".
* أكاديمي مغربي متخصّص في العمارة، ومدير المدرسة العليا للمهن المعمارية في الجامعة الخاصة لفاس
** ترجمة عن الإسبانية: مزوار الإدريسي