الذُّبابة

30 يناير 2024
المُسيّرات الصهيونيّة أدوات إبادة تُحلّق في سماء غزّة، 17 كانون الثاني/ يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

هُم ثلاثة، يجلسون في كنبة واسعة وثيرة أمام التلفاز، يتفرّجون على المذبحة وهي تفتك بغزّة ببثّ حيّ. في الهواء الثقيل المحيط بهم تطير ذبابةٌ بعشوائيّة، ترقبهم والصور المتحرّكة أمامهم بعينيها المركّبتين من آلاف العُيَيْنات، تهمّ بأن تحطّ على رأس أحدهم ثمّ تغيّر رأيها متّجهة نحو الشبّاك المُزجّج من حيث يتسلّل بعضٌ من الضوء، وهي في حركتها هذه تخاطبهم إذ تئزّ وهُم لا يسمعون. 

"أيّها الزّعيم القائد. يا من تملك الأمر والحلّ والربط؛ يا من ترأس وتُعيّن وتُقيل؛ يا من تسود وترعى وتَرفع وتُنزل وتعقد الاتفاقات وتبرم المعاهدات وتعلن الحرب والطوارئ والأحكام العُرفيّة، أبقِ في ميراثك ذرّة من كرامة، تستقلّها كمركبة كوانتوميّة متناهية الصغر، وتغادر إلى غير رجعة؟".

"أيّها الجنرال ذو الرّتب. يا من تجلس فوق أطنان من الأسلحة والمعدّات؛ يا من تحبس داخل شخصك وجُندك سنواتٍ طوالاً من التدريب والتجهيز؛ يا من بلعتَ الرواتب والامتيازات لتكون على أُهبَة الاستعداد في النوازل والمَلمّات، أبق في جعبة مسدّسك بقيّة من شرف تُطلق به النار على نفسك؟".

"أيها الأمين العام للحزب المعارض. يا من أُلهمت صواب الرؤية وصحّة المسار؛ يا من يلعب بك الأوّل ويضبط إيقاعك الثاني؛ يا من تقيم الاحتفالات الكرنفالية الخالية من السياسة في الشوارع باعتبارها احتجاجات؛ يا من تطلب الاعتراف من خصمك المُعلن، ومنه تتسوّل المال والمكانة، أبق في وجودك بقيّة تمكّنك من محوه؟".

بِقُرون استشعارها تسمع الذبابة الأسئلة غير المنطوقة وتقهقه في سرّها

حديث الذُّبابة غير مفهوم، مجرّد إزعاج في الخلفيّة يشوّش سيل الكلام الذي ينطق به مقدّمو الأخبار، والعيون الأرِقة المُحمرّة الستّ تتأمّل ساقاً ظهرت في صورةٍ في الشاشة، ظنّوها أوّل الأمر معكوسة فأمالوا رؤوسهم، وكاد الأوّل أن يرفع الهاتف ليقرّع مدير القناة، فالساق المغبرة التي تعلوها قدم ترتفع إلى الأعلى، والأرض التي يجب أن تطأها موجودة أسفل منها، لكنّهم، بعد أن تشاوروا فيما بينهم، وحلّلوا الموقف، فهموه، وحلّوا معضلته: الركبة والساق الثانية وما بقي من الجسد المتّصل بهما مدفونة عموديّاً، وبالمقلوب، بين الأنقاض.

انطلاقاً من تلك الساق بالذات، ومع انعدام تركيز على أشخاص كثرٍ في محيطها يحفرون بأيديهم العارية في محاولة - تبدو تراجيديّة - لاستخراج صاحبتها المدفونة ("حيّة لا بد"، علّق الأمين العام للحزب المعارض لمجاورَيه، دون أن يكلّف أيٌّ منهما نفسه بالردّ)، تساءل كلّ واحدٍ من الثلاثة في سرّه أن "ماذا بعد؟"، و"ما مصيرنا؟"، و"أين سنكون في اليوم التالي؟"، فيما حكّ الزعيم ذقنه المحلوق المعطّر بأصابع متوتّرة.

بطريقة ما، طريقة الذُّباب غير المفهومة تماماً، تسمع الذبابة هذه الأسئلة غير المنطوقة بواسطةٍ من قرون استشعارها، وتقهقه في سرّها، فهي - على الأقلّ - تعرف مكانها وإمكاناتها، وتعرف أنّها لم تكن يوماً - ولن تكون - ورقة يمسح بها القوي، راسم الخرائط، قابض الأرواح، مُسيّر حاملات الطائرات والبوارج القتالية المُرافقة، مؤخّرته المسهولة على الدوام، ثمّ يلقيها إلى الجانب في سلّة القمامة، وتتجدّد محاولاتها في مضايقة الجالسين حيناً، والخروج عبر زجاج النافذة المغلق بإحكام حيناً آخر، إذ تفهم - دون أن يُعينها الفهم على حلّ - أنّها أيضًا محشورةٌ في السلّة المذكورة، المليئة بالأوراق المستعملة الملطّخة بالبُراز.


* كاتب من الأردن

المساهمون