تقوم المعرفة عند ابن عربي على محاولة الجَمع بين المرئيّ واللامرئيِّ لإعطاء الخيال بُعداً وجوديّاً، والعَكس صحيح، أي لتخيُّل الوجود في تلك المنطقة الوسيطة والهائلة، التي تُدعى "البرزخ"، هناك حيث يلتقي الوجود والمقدَّس، الظاهر والباطن، الذات والرَّمز، الحَقّ (الله) والخَلق. فـ"البرزخ" هو أوسع الحضَرات في الوجود، لأنَّه يجمع بين العالَمين، فهو، كما يعبِّر ابن عربي، "مجمع البحرين": بحر المُجرَّدات وبحر المحسوسات، ذلك أنَّ الحسَّ لا يُنشئ الفكرة، وهذه لا تُنشئ ذاك. وحضور الخيال يجسِّد المحسوسات، ويحوّل أمام نظرة المُراقب جوهرَ كلِّ معلومة، ذلك أنَّه القاضي الذي يحكم دون أن يحاكَم، على الرَّغم من كونه مخلوقاً.
يتجاوز الخيال عند ابن عربي جميع النظريات الكلاسيكية للمعرفة، في الثقافة العربية الإسلامية، ولا سيّما الموقف النفسي للفلسفة؛ الذي عدَّ الخيال قوّة أُخرى بين العديد من قوى الإنسان، ليضعَ فيه ابن عربي لا شَيء أقلَّ من سرِّ وحقيقة العالم. وقد نقد ابن عربي، على نحوٍ جذريٍّ، التفسيرات التقليدية، بدءاً من ابن رشد وصولاً إلى الفقه وعلم الكلام، لذلك سعى في تصوّفه إلى تقديم تفسير منفصل عن الصراعات بين الطوائف والمذاهب المختلفة، ليَجمعَ بَين نور الصُّوفيَّة، ورحلتها، والإدراك الإنسانيّ لها. ومحاولته هذه تنقل اللغة من حيِّزها الاجتماعي إلى الحيِّز الوُجودي. فالتفسيرات التي تتحوَّل إلى سلطة مرجعية تدمِّر الوحدة العميقة بين الإنسان واللغة، وتالياً، تدمِّر وحدة العالم.
لهذا السبب، يسعى الصوفي إلى استعادة تلك الوحدة المفقودة عبر القضاء على قوّة الذات التي يعرفها، وإقحام نفسه في لغة الأشكال الرمزية الوجودية التي تُعبِّر عن العلاقة بين الإنسان ووحدة الوجود. هكذا، يبتكر ابن عربي أمام اللغة المتشدّدة والمحافِظة والمغلقة، لغة الرمز المفتوحة والمتجدّدة بوساطة قوّة الخيال، بوصفها قوّة إبداعيَّة لا متناهية، يكمنُ قيدها الوحيد في أنَّها لا تعمل إلَّا بالصور. وتسمح لنا الصوفية برؤية العالم، ليس ككونٍ ثابتٍ ومُنتهٍ، إنّما كأنماطٍ متعدّدة الأشكال، توجد في تحوّل دائم، وتحافِظ على الوحدة الأساسية. والعبرة النهائية من نظرية ابن عربي عن التجلّي الإلهي، هي أنَّه لا توجد معرفة ثابتة وراسخة.
جميع الحواس تعمل على تقريب الصوفيّ من العالم
ويُمكن تلخيص موقف الشيخ الأكبر في نظريّته للمعرفة من خلال مفهوم الكَشف الصوفي، وفيه يتمُّ دمج عالم الإدراك الحسي وتحويله إلى عالم المعاني في البنية الرمزية، التي تكمن وراء العالم، والتي يجب على المرء أن يلج فيها. وعلى عكس الفلاسفة وعلماء الفقه، لا يتمثّل الإدراك الحسي عند ابن عربي في استيعاب المعطيات الخارجية التي تهدف إلى تغذية العقل، بل يرى أنها حركة عكسية، أي من داخل الصوفي باتِّجاه العالم الخارجي. كما يتجاهل الشيخ الأكبر البنية الهرميَّة لنظريَّات المعرفة عند الفلاسفة، التي تبدأ بأدنى مستوى من الحواس وصولاً إلى القوى الفكرية المتوسطة والعُلوية، ويشير بدلاً من ذلك إلى فِكرته عن الوجود ومفهومه للواقع كمزج دائم بين التجلّيات الإلهيَّة.
ضمن هذا السياق، يكون المحسوس مجموعة من الصور والأشكال الوجودية التي تخفي الأسرار والمعاني الإلهية. وهكذا، يكتسب الإدراك الحسي، لدى الصوفي، قيمة عندما يُشرح من حيث علاقته بتلك الصور والأشكال فحسب. غير أنَّ الحواس ليست عائقاً، فهي متحالفة مع البصيرة الباطنة والخَيال لأجل الاستدلال على تلك المعاني الباطنة، أي حصول الكَشف. هكذا، تُمنح الحواس وظيفة إبداعية، ولا تبقى غير فاعلة. هذا تحديداً ما دفع سليمان العطَّار إلى وصف البصيرة الصوفيَّة بأنها بصيرة فنية، ليس بسبب كيفيّتها التأمُّلية، بل بسبب كيفيَّتها الإبداعية. ويرى ابن عربي أنَّ جميع الحواس تعمل بقوّة متساوية، لذلك لا يصنّفها من حيث أفضلية إدراكها. كلها تُقرِّب الصوفي على نحو متساوٍ من العالم، وَتُلهمُهُ لاستخدام قواه العليا للكشف عن أسرار الطّبيعة، كما أنَّها تثير الخيال. وهكذا، يندمج معها الإدراك الحسي، ويتحوَّل هو كذلك إلى إدراكٍ خيالي بالمعنى الوجودي الذي يعطيه فيلسوف مرسيَّة، ابن عربي، إلى هذا المفهوم.
وفي أطروحته عن الحبِّ، الموجودة في "الفتوحات المكّية"، يعرض ابن عربي حواراً مثيراً بين القوة المفكِّرة والنفس، ويشدّد على حدود تلك القوة التي تتمثَّل وظيفتُها الوحيدة في جعل النفس تدرك أنَّ لها خالقاً، لكنَّها في الوقت نفسه غير قادرة على معرفته، لذلك فإن العقلانية تُجهد نفسها في معرفة الخالق - وفقاً لابن حزم وابن رشد - لكنَّها مع ذلك لا تستطيع النفاذ إلى فهم العالَم الخيالي للتجلِّيات ووحدة الوجود. وفي مناقشته في علم الصفات الإلهية، يقول ابن عربي، إنَّ الله خلقَ قوة العقل في النفس الناطقة "ليقابل بها الشهوة الطبيعية"، وذلك لأجل تمييز شرائع الوحي. ويؤكِّد فيلسوف مرسيَّة أنَّ الله خلق القوّة المفكِّرة لأجل التصرُّف في الموجودات، والتحكُّم بها بما يضبطه الخيال، الذي يعمل في الإنسان بمساعدة القوى الحسية والقوة المصوّرة المسؤولة عن إعادة صياغة القدرات المشتركة للحواس الفردية.
العبرة من نظرية التجلّي أنَّه لا توجد معرفة ثابتة
هنا، يقلب ابن عربي ترتيب علم النفس التقليديّ، الذي يشمل الحواس، والحسّ المشترك، وقوة الخيال، والقوة المُفكِّرة، والعقل، معطياً الخيال دفَّة القيادة بالكامل. في هذا المخطَّط، يقتصر دور القوة المُفكِّرة على تأكيد وجود الجوهر الإلهي، لكن هذا لا يعني أنَّها غير محكومة بالأخطاء التأويلية، فتفسيرات الصفات الإلهية التي يقدّمها العقل، تتعارض دائماً مع الوحي. ودائماً ما يقدِّم الفلاسفة، من أهل النّظر، أدلَّة عقلية على الذات الإلهية، لكنّهم لا يتّفقون أبداً في حججهم. فمنهم من ينفي الوحي، ومنهم من يقع في التشبيه، وآخرون يتمسَّكون بالتنزيه، وهذا التناقض الظاهر في الآراء يُحيِّر العقل ويربكه. لذلك، يعمل ابن عربي، لا سيَّما في مناقشته الصفات الإلهية للجمال والجلالة، على تعليمنا أنَّ الطريق الوحيد إلى المعرفة هو فهم الوحي بوحدته الإجمالية والجوهرية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلَّا بالتخلِّي عن عادات العقل السببية والمنطقية.
عليه، يجرِّد الشيخ الأكبر العقل من قدراته الفكرية، على الرَّغم من أنَّه لا يقع في عقائدية المتصوّفة الآخرين، الذين اتَّخذوا موقفاً حازماً ومتشدِّداً تجاه العقل. فهو يرفض كلَّ ميتافيزيقية تضع الألوهية والإنسان والعالم في ترتيب هرمي، ومن هنا سعت فلسفته إلى التراجع عن هذا الترتيب، واستبداله بفكرة وحدة الوجود. من هنا أيضاً كان نقده لفرض العقل كأداة كونية ونهائية، فكلُّ فيلسوفٍ له الحقّ في تفسير الألوهية على نحو مختلفٍ. لهذا، كان العضو المفكِّر والمعرفيّ في الصوفيّة ليس العقل، بل القلب وسعة الخيال، وهو ما يظهر جليّاً في حقل الجماليات، ذلك أن العقل لا يستطيع أن يتأمّل الجمال الإلهي.
وليس من قبيل المصادفة أنَّه حينما يكتب ابن عربي عن الاسم الإلهي الجميل، فإنّه ينتهي إلى التركيز على الحدود الفكرية للعقل. وهذا يتطلَّب علم المجهول، والعلم الذي يكون تحت النطق، وكلّ علم يدخل تحت العبارات، وهي علوم الأذواق كلّها. وهكذا، يكون مجال القلب والخيال هو المجال الحقيقي للمعرفة عند ابن عربي، علاوة على كونه المكان الذي تحلّ فيه التناقضات عبر فرض وحدة عميقة بين التنزيه والتشبيه، والمساحة التي نطلُّ منها على الجمال والجلال الإلهيّين.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا