"الجَمال الخفيّ": العراق كما عرفه لطيف العاني

26 ابريل 2023
من الفيلم
+ الخط -

لا يمكننا الحديث عن التصوير الضوئي في العراق من دون أن يندفع إلى البال اسمُ لطيف العاني، أو "عين العراق"، كما يسمّيه البعض، و"الأب المؤسِّس للتصوير العراقي"، كما يسمّيه البعض الآخر. في الفيلم الوثائقي "العراق، الجَمال الخفيّ"، الذي تبثّه قناة "آرتيه" الثقافية الألمانية الفرنسية هذه الأيام، يصحبنا المُخرجان سهيم عمر خليفة ويورغن بويدتس في جولةٍ سنتأكّد في غضونها من أن العاني أكثرُ من مؤسِّسٍ أو عينٍ فريدة من نوعها: إنه أرشيفٌ قائمٌ بذاته للعراق خلال العقود السبعة الماضية.

"وثقّتُ العراق كلّه. من الشمال إلى الجنوب. من الجبل إلى السهل"، يقول المصوّر أمام عدسة المخرجَيْن اللذين صوّراه قبل رحيله بنحو عامين (1932 ــ 2021)، واللذين شاءا بناء فيلمهما كرحلةٍ يعودان فيها مع العاني، الذي تقدّم في السن، إلى الطريق الذي قطعه في شبابه، والأماكن التي صوّرها وخلّد بعض لحظاتها بعدسته، من الأهوار في الجنوب إلى سنجار في الشمال، مروراً بالموصل ونينوى وغيرها من المدن والبلدات العراقية.

رحلةٌ تتقصّد، في الآن نفسه، استعادةَ واحدةٍ من أبرز تجارب التصوير الضوئي في العالَم العربي، والوقوف من خلالها على أحوال بلدٍ لا يتردّد العاني في وصف حالته المتردّية منذ عقود: "العراق البلد الوحيد في العالم الذي يبقى ماضيه أفضل من حاضره. ويمكن أن يكون اليومُ أفضلَ من الغد. منذ عام 1958 والبلد يتدهور إلى الوراء. العالم يتقدّم ونحن نتراجع".

يتخذ الفيلم من تجربة العاني مدخلاً لفهم أزمات العراق في العقود الأخيرة

وصفٌ واعترافٌ بالحقيقة يوجعان قلبه قبل أن يوجعا قلب غيره، وهو الذي عرف في شبابه عراقاً كان ذاهباً نحو الازدهار، قبل أن يدخل البلد، مع انقلاب عبد الكريم قاسم، عام 1958، كما يقول، مرحلةً من التدهور اللانهائي، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي وما تلاه، وكذلك ما سبقه. وممّا سبق الاحتلال الأميركي، لا بدّ أن نذكر، بالطبع، اضطرار المصوّر إلى التوقّف عن ممارسة مهنته وهوايته بسبب ضغوطات نظام صدّام حسين عليه، لكنّه لا ينسى أن يخبرنا، أكثر من مرّة في الفيلم، أنه ما يزال يلتقط صوراً بهاتفه الجوّال، قبل أن يُختَتم الشريط بإخراجه لكاميراه وتصويره لمشاهد للأهوار ولأهلها الذين يحبّهم. "عاصرتُ كلّ الرؤساء، من الملك (فيصل الثاني) وقاسم وعبد السلام وعبد الرحمن (عارف) وأحمد حسن البكر وصدّام حسين، عاصرتهم جميعاً"، لكن "بعد الملكية، كلّ نظام كان عنده توجّس وخوف من أن يأتي أحد وينقلب عليه".

هكذا يلخّص الرجل مرحلة من الصراعات والانقلابات السياسية "استنزفت ثروات البلد وطاقاته الثقافية وعقوله وأعادته مئات السنين إلى الوراء"، قبل أن يأتي الاحتلال الأميركي ويمحو كلّ أمل عنده، ويمحو معه أرشيفاً ضخماً كان موجوداً لدى وزارة الثقافة العراقية وحدها: "مو أقل من ربع مليون نيغاتيف" ضاع أو أُتلف أو أُحرق، يقول المصوّر بحسرة تزيد صوته ــ المتعَب أصلاً ــ إنهاكاً.

فتلك الأشرطة السالبة للصور كانت تضمّ سنواتٍ وسنوات من جَمال العراق، هذا الجَمال الذي اختفى في كثير من المواضع ولم يبقَ منه إلّا بعضٌ من الذكريات، ومن بينها أرشيف لطيف العاني نفسه. "الصورة غير الكلام... من دون صورة ما كان يمكن تصديق" حال العراق قبل دخوله وُحُول الأزمات، يقول الرجل وهو يفتح بعضاً من أرشيفه ويُرينا مَشاهد لسكّان من الأهوار يركبون المشحوف، ولأطفال مدارس، ولرجال ونساء يحتفلون، ولمارّة، وبيوت، وأشجار، وعائلات تتنزّه، ولكلّ ما كان مُرادفاً عنده للجَمال وللسيرورة الحضارية السليمة. "البلوك والحديد يمكنك أن تراهما من كل مكان": هذا "جَمال مصطنع" كما يقول، لكنّ "الجمال ليس في الشكل، بل في الروح، والتفكير، والبساطة: هذا هو الجمال".

المساهمون